الرئيسية | تحاليل إجتماعية | مصير القرية الكونية: قراءة في صعود ترامب |بقلم: أحمد برقاوي

مصير القرية الكونية: قراءة في صعود ترامب |بقلم: أحمد برقاوي

تحاليل _ تحاليل اجتماعية _ مصير القرية الكونية: قراءة في صعود ترامب. |بقلم: أحمد برقاوي*.

يمر العالم بتحولات عميقة وكيفية تؤسس لروح جديد مختلف، حتى ليصعب على العقل أن يقبض عليها ويرصد مآلاتها على نحو مطمئن. فمنذ زوال الدولة السوفييتية وما رافقها من تغيرات في طبيعة العلاقات الدولية وعلاقات القوة ومنذ احتلال العراق وما ولّده من نتائج على مجمل العالم، وحتى انفجار الربيع العربي وما تمخض عنه من تغير في طبيعة القوى المتناظرة والجديد في عالم النفط وأسعاره وإنتاجه وخطوطه والتحول في سياسة الولايات المتحدة بزعامة الديمقراطيين وعلى رأسهم أوباما يعيش العالم نمطاً من الفوضى التي تحتاج إلى عقل استراتيجي كي يمتلكها على نحو نظري.

وليس بخافٍ على أحد من علماء السياسة ومفكريها وصانعيها بأن فقدان الدول الفاعلة، وبخاصة الولايات المتحدة، للريادة في مواجهة مشكلات العالم قد زاد من حدة الفوضى المعيشة الآن. فانزواء أميركا-أوباما عن مواجهة المشكلات التي ولّٰدتها مرحلة بوش الأب وبوش الابن وانشغال دول الاتحاد الأوروبي بأزماتها الاقتصادية الداخلية واتجاه الصين نحو زيادة معدلات نموها الاقتصادي كل ذلك قد ترك المشكلات العالمية، وبخاصة المشكلات الإقليمية في المنطقة، تجري وفق نمط من الصراعات ليس أقلها الصراعات بين القوى غير المتناظرة.

وجاء انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة ليعلن عن تعين جديد لحال العالم اليوم. فكيف نفسر كل هذا تأسيساً على الظواهر السابقة؟ هذا السؤال يحتاج إلى سؤال فلسفي رئيس:

ما هو العالم اليوم من زاوية فلسفة التاريخ؟ وفي ضوء الإجابة عن هذا السؤال يمكن فهم الظاهرة البوتينية.

يمر العالم اليوم وفي هذه المرحلة بحالة هي أقرب إلى حالة الحرب غير المعلنة التي لا تخلو من الأخطار. إنها أقرب إلى حرب احتلال المواقع لاكتساب الهيمنة في حقبة من التاريخ اصطلح على تسميتها بالعولمة. وحين نتحدث عن العالم فإن علينا أن نحدد الدول من حيث فاعليتها ودرجة حضورها في تشكيل العالم، ومستوى الريادة في دورها في عولمة الحضارة من جهة وتشكيلها.

وفي ضوء ذلك فإن هناك اليوم عدداً من الدول الفاعلة بحكم ما تنطوي عليه من قوى اقتصادية وعسكرية وعلمية وتقنية وثقافية أهمها الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية والصين وروسيا واليابان.

فما زالت أميركا منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن تحتل مركز الصدارة في عملية تشكيل العالم وإدارة صراعاته. والصين تصعد في المستويين الاقتصادي والعسكري و باتت معها قوة تتسلل دون ضجيج إلى مركز الصدارة.

في حين أن أوروبا العجوز تسعى لاستعادة شبابها ولكن ارتباطها بالولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية يجعلها في وضع التفكير في نوع من الاستقلال عن الولايات المتحدة.

أما روسيا فهي مازالت عملاًقا عسكرياً يتكئ على الإرث السوفييتي ويسعى لاستعادة مكانته في عالم جديد في الوقت الذي تحول إلى قزم اقتصادي. أما اليابان فهي عملاق اقتصادي وعلمي ولكنها قزم عسكري.

وتأتي في الدرجة الثانية الدول الأقل من حيث الفاعلية على مستوى العلم ولكن لم يعد أحد من دول الفاعلية الأولى بقادر على تجاهلها في معركة الهمينة، وهي الهند وباكستان وتركيا وإيران ودول مجلس التعاون الخليجي. وهي دول تعيش مشكلاتها الإقليمية بفاعلية مرتبطة بالدول الأولى.

هناك عدة عوامل تحدد دول العالم من حيث حاضرها ومستقبلها وموقعها أولها العولمة. فالنزوع نحو الهيمنة في ظل العولمة وحلّ المشكلات الداخلية في ارتباط مع حركة العولمة.

ويبدو أن مصطلح القرية الكونية الذي شاع للدلالة على وحدة العالم التي أنجزتها العولمة لم يعد كافيا لفهم مسار العولمة. إذ يبدو أن هناك نزعة يمينية محافظة بدأت في الظهور في بلدان أوروبا وأميركا. نزعة تتجه نحواعادة التقوقع داخل جدران الدولة القومية ومصالحها. وهذا يعني أن أزمة في مسار العولمة كواقع موضوعي باتت تهدد مسار العولمة وتعلق مبدئيا مفهوم “القرية الكونية”.

فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والخطاب الانعزالي لترامب وعودة السلوك العسكري ممثلا بروسيا إلى الحياة ومشكلات أوكرانيا ودول البلطيق وجورجيا والخلاف الياباني الصيني ومشكلات السلاح النووي الكوري والإيراني ومشكلات اللاجئين، كل ذلك من الأمور التي باتت تنعكس على المزاج السياسي بوصفه مزاج مواجهة وليس مزاج دول تعيش في قرية واحدة.

تبدو العولمة اليوم في أزمة تطور تاريخي وهذه أزمة عالمية أولاً وأزمة دول ما زالت تفكر بعقل الهيمنة.

فما هي هذه الأزمة؟ إن الإمبريالية كتعيّن خاص للرأسمالية قد كونت العالم عبر حربين عالميتين. فهي عانت من أزمة تطور و قد نشأت الإمبريالية الألمانية النازية بوصفها تعبيراً عن أزمة اقتسام العالم وما رافقها من فاشية في إيطاليا واليابان ودكتاتورية سوفييتية. العولمة هي رأسمالية جديدة تعيش التناقض مع مرحلة الإمبريالية. فالإمبريالية وحدت العالم مع بقاء الدولة الإمبريالية متحكمة بحركة التاريخ. المشكلة في العولمة بأنها توحد اقتصاد العالم دون النظر إلى الدولة القومية ودون زوال الدولة القومية. فالصين هي دولة متعولمة اقتصادياً ولكنها دولة قومية وهكذا.

ولا يمكن فهم صعود ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي إلا ثمرة هذا التناقض بين العولمة كمسار يوحّد العالم اقتصادياً وعلمياً وتقنياً ومعرفياً والدولة القومية الإمبريالية.

هنا يظهر التناقض التاريخي الخطير بين العولمة والنزوع نحو الهيمنة الذي يولّد أزمة في في مسار العولمة والذي يتخذ صور صعود قوى اليمين المحافظ وصعود الترامبية.

أما من حيث النزوع نحو الهيمنة فما زالت الولايات المتحدة الأميركية تتصدر دول العالم رغم وجود دول تنازعها على ذلك ولكنها لا تشكل قوة تنافسية كبيرة. فحين أتت البيريسترويكا السوفييتية على الاتحاد السوفييتي كقوة عالمية فاعلية، انفردت أميركا بعملية تشكيل العالم.

فالريغينية والبوشية -الأب والابن- مروراً بمرحلة كلينتون حالات طبعت العالم بطابعها منذ ما كان يسمّى بحرب النجوم مروراً باحتلال العراق وانتهاءً باحتلال أفغانستان.

كانت فكرة أميركا القوية القادرة على فعل أي شيء قد سيطرت على عقل السياسة الاميركية ونظّر لها بعض المفكرين السياسيين ممن سمّوا بالمحافظين الجدد.

مع مجىء أوباما بعد بوش الابن، الذي التف حوله المحافظون الجدد، تبنى الاتجاه الاوبامي سياسة مختلفة بل ومتناقضة مع سياسة المحافظين الجدد.

أدت سياسة أوباما خلال السنوات الثماني إلى فقدان العالم لدولة ذات ريادة في الوقت الذي نزعت فيه روسيا نحو استعادة المكانة العالمية عبر الهيمنة على البلدان الممكنة.

وهنا جاءت ظاهرة ترامب لتعيد أيديولوجيا أميركا القوية المهيمنة على العالم، أميركا التي تعيد إنتاج قوتها لتكسر رأس مسار التاريخ الذي حاول أن يجعلها قطباً من بين أقطاب وليس القطب الوحيد.

فعلى المستوى الإقتصادي الترامبية استعادة أميركا لهيمنتها الاقتصادية عبر إعادة إنتاج الدولة الإمبريالية القومية إنتاجاً وسيطرة على السوق ورفاهاً. وعلى المستوى العسكري إعادة إنتاج الجيش النزعة العسكرتارية للدولة القوية. أما على مستوى القيم فإن الترامبية نكوص القيم اللبيرالية-الديمقراطية.

قد تفضي الترامبية إذا ما استمرت إلى إعادت العالم إلى مرحلة الصراع الدامي طلباً للهيمنة، لأن فكرة الدولة المهيمنة لا بد من أن تخلق العداوة نحو الهيمنة. وهكذا يعيش العالم اليوم انهيار العلاقات الدولية القديمة ومساراً نحو علاقات دولية لن تستطيع أن تخرج من مأزقها إلا بصراع دامٍ. ولم تأخذ شكلها النهائي حتى الآن والذي يزداد ضبابية لأن جملة الاحتمالات للسياسة الترامبية غير قابلة للتوقع. والحق فإن العولمة قد خلقت، في مسار تطورها، جملة من مشكلات محلية ذات أثر عالمي لا ندري كيف ستتعامل معها الظاهرة الترامبية؟

يبدو بأن دول الرفاه الأوروبية والأميركية قد وقعت في عقبة استمرار فازدادت معها نسبة العاطلين عن العمل ونسبة الفقراء وبالتالي نسبة الرعاع وهم حزام الفاشية عموما وجمهور ترامب ولوبين وما شابه ذلك.

وتزداد النزعة العسكراتارية الروسية دون أيّ حل لمشكلات روسيا الاقتصادية واللعب على وتر الشوفينية الروسية المعززة بنزعة مسيحية أرثوذكسية وتظهر هذه النزعة في التعامل مع أوكرانيا ودول البلطيق واحتلال القرم وجورجيا وأخيراً مع سوريا.

وتزداد الصراعات العالمية حول خطوط النفط والغاز مساراتها بل يمكن القول بأن العالم حرب خطوط النفط. وهناك المسألة الكورية الشمالية وسلاحها النووي والبرنامج النووي الايراني ونزوع إيران نحو الهيمنة على البلدان ذات الأقليات الشيعية وتغذية الصراعات الطائفية.

لقد أظهرت المسألتان السورية والعراقية آثارهما على النظام العالمي ككل وبخاصة بما ولدته السلطتان الحاكمتان بدعم إيراني من حروب وأصوليات تزيد من حال انتقال التوتر إلى عوالم جديدة وبخاصة في أوروبا، فضلاً عن الصراع بين الدول التي سميتها الأقل تأثيراً كالصراع الهندي-الباكستاني والصراع الإيراني-التركي والصراع على دول آسيا الوسطي والصراع العربي الفلسطيني-الإسرائيلي. وإذا أضفنا إلى هذه الصراعات التي تكفي لخلخلة السلم العالمي الصراع الروسي -الأميركي والصراع الأميركي-الصيني الذي يؤسس له ترامب والصراع الأميركي-الإيراني الممكن أدركنا بأن حركة التاريخ قد تنذر بفاجعة عالمية أو كارثة حضارية وبخاصة إذا ما تحولت الترامبية صورة لسلطات العالم.

لا يمكن النظر إلى التاريخ بوصفه حركة عفوية فحسب إنه ثمرة أفكار في الرأس أيضاً، أفكار تطرح ما يجب أن يكون عليه العالم، وتبرز الكوميديا التاريخية حين تكون هناك أفكار في الرأس تلعب دور المشنقة لإعناق الإمكانات وللحيلولة دون ولادتها في الواقع، أو حين تكون أفكار رأس خال من جدل الإمكانية والواقع والإرادة. ولكن هناك فرق بين تراجيديا تاريخية تحقّق في الواقع ما كان في رحم التاريخ وهي التراجيديا الحقيقية وكوميديا الحمل الكاذب الذي تكون ضحيته الإرادة.

يضاف إلى هذين النمطين من التراجيديا والكوميديا وهم الإرادة الحمقاء التي تعتقد بأنها قد تكون سداً أبدياً أمام مجرى التاريخ، وبخاصة حين يكون المجرى في حال الطوفان. إن الخراب الذي تولّده الإرادة الحمقاء قد يفضي إلى نمط من الإنحطاط الكلي إذا ما كانت تمتلك فضلات قوة متبقّية من إرث عنفها الطويل في قتل أجنة التاريخ.

والإرادة الحمقاء نمط من الاغتراب الجماعي التخريبي، الإغتراب الذي يزيّن لهذه الإرادة تجميد العالم عبر القوة في الوقت الذي لا تكون مهمة القوة هذه سوى تأخير انفجار الحياة.

—————————————————————————————————————————

* كاتب من فلسطين.

شاهد أيضاً

من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري

تحاليل _ تحاليل سياسية _ من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري* تكتمل الخميس المقبل أربعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.