الرئيسية | تحاليل إجتماعية | كيف عبّر الإسلام عن نفسه خيارا اعتقاديّا وميزانا عقليّا وعلميّا؟ |بقلم: لطفي العبيدي

كيف عبّر الإسلام عن نفسه خيارا اعتقاديّا وميزانا عقليّا وعلميّا؟ |بقلم: لطفي العبيدي

تحاليل _ تحاليل اجتماعية _ كيف عبّر الإسلام عن نفسه خيارا اعتقاديّا وميزانا عقليّا وعلميّا؟ |بقلم: لطفي العبيدي.*

نشأت الفلسفة الإسلاميّة بما هي إحدى الحركات العقليّة في ظلّ الإسلام وحضارته، وارتبطت به بأنواع مختلفة من الارتباط، إمّا بالتّفلسف في عقائده من حيث الخطاب العقلي بتوجيه النداء الإيماني للإنسان، ومن حيث مناداته له بتطبيق النصوص الدينيّة، أوبالملاءمة والتقريب بينه وبين فلسفات أخرى وافدة إلى المسلمين، أوبمجرّد التّعبير عن وجهة نظر ما في الألوهيّة والكون والحياة.
وفي هذا السياق يوجّه الفيلسوف خطابه العقلي إلى الإنسان بأن يؤمن إيمانا ليس مبنيّا على الوراثة والتّلقين، بل على أسس عقليّة، بمعنى أنّ يؤمن الفرد وهو مقتنع كامل الاقتناع بالله وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وهي خصائص وتصوّرات، إنّما وُجدت لتشهد أنّ الإسلام لا يعبّر عن ذاته بعلوم الدين والنقل والاجتهادات الفقهيّة والتشريعيّة فقط، وإنّما أيضا بعلوم الفكر والعقل والحكمة النظرية والعمليّة، تأسيسا لعلاقة جديدة بين «عالم الغيب» و»عالم الشهادة» من داخل فلسفة عقليّة تبحث عن الحكم الصائب والعلم الأنفع إسهاما في تغيير النظرة إلى المعرفة الإنسانية وإلى معطى «الاستخلاف» في الأرض.
وفي هذا السياق عبّر ابن خلدون عن أنّ من العلوم الواقعة في العمران التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في ما بينهم في الأمصار تحصيلا وتعليما، العلوم الحكمية الفلسفيّة، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشريّة إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتّى يثقب نظره ويحثّه على معرفة الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر.
وبهذه الصفة عندما يدرس العقل ما حوله من قضايا الوجود يعلم أنّه يؤدّي وظيفة التّفلسف ويشعر بأنّ الفلسفة تمنحه حرّيته في مباشرة التفكّر في ذاته وفي الأشياء المحيطة به، من أجل إيقاف فوضى المفاهيم والخلط بين المصطلحات، وتقريب المسافات بين العقول، وتوطيد التعايش بين المجموعات، وتقليل منابت سوء الفهم والالتباس في العلاقات، وهي مسائل عبّرت عنها الفلسفة الإسلاميّة منذ الكندي وصولا إلى ابن رشد بإبداع المفاهيم المبتكرة ودائمة الجدّة من قبيل مفاهيم الجوهر والماهية وواجب الوجود، والعقل الفعّال، والممكن والهيولي والعناصر الاسطقسات والتدبير والتعقّل، والملّة والإنصاف والصّداقة والرئاسة والناموس والسعادة والعدالة والعمران، والأفعال الإراديّة والممكن والعقل الأوّل والعقل الثاني والحقيقة والقيمة.
إنّ الخطاب الفلسفي الإسلامي أتى ليؤكّد أهميّة العقل والعلم في الحياة الإنسانية عموما، وعلى صعيد الخيار الاعتقادي على نحو مخصّص، وهو فهم ظلّ في إطاره البحث في علاقة المعرفة الإلهيّة بالمعرفة الإنسانيّة الدافع الأساسي للإبداع الذّهني في التاريخ الفكري الإسلامي، ومنذ الكندي إلى ابن رشد مرّت المدرسة المشائيّة الإسلاميّة بنزعات ومراحل مختلفة جعلتها متداخلة في اهتماماتها مع جميع المعارف النظرية والمنهجيّة الإسلاميّة – خاصة الكلام والتصوّف والفقه وأصوله، ما يفترض متانة المخزون الفلسفي الإسلامي في جميع تعبيراته، من جهة أنماط التفكير وأنساقه والمدارس التي تولّدت عنه في حراكيّة الجدل والمناظرة مع الدّاخل كما مع الآخر. فالفكر الفلسفي الإسلامي عبّر بامتياز عن مستوى الروح الحضارية للأمّة – أي مستوى قدرتها على الإسهام في دورة الحضارة عبر تحويلها قيمتها الذاتية إلى قيم مشتركة إنسانيّة تُصاغ على مرجعيّتها التجربة العمليّة إيمانا بأهمية العلم والعمل بالعلم.

——————————————* كاتب تونسي.

 

شاهد أيضاً

من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري

تحاليل _ تحاليل سياسية _ من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري* تكتمل الخميس المقبل أربعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.