الرئيسية | تحاليل سياسية | تونس: طبقة سياسية تتلهّى بالتفاصيل وتدير الظهر للأزمات.

تونس: طبقة سياسية تتلهّى بالتفاصيل وتدير الظهر للأزمات.

تحاليل _ تحاليل سياسية _ تونس: طبقة سياسية تتلهّى بالتفاصيل وتدير الظهر للأزمات.

عكست المعركة الحامية للإطاحة برئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد حقيقة أن الطبقة السياسية التونسية اختارت أن تسير باتجاه عزل نفسها عن هموم الناس وقضاياهم، وأنها غير معنية بحل تلك الأزمات إلا بشكل عرضي بما يسمح لها أن تستمر في صراع الديكة من أجل السيطرة على المواقع.

وببساطة يمكن اكتشاف حجم الغضب الشعبي من الطبقة السياسية التي حملتها الثورة إلى الواجهة سواء كانت في الحكم أو المعارضة، وهذا أبانت عنه بشكل واضح نتائج الانتخابات المحلية التي أثبتت أن الشارع الذي تحمّس لانتخابات 2011، وخاصّة 2014، لم يعد يجد نفسه معنيا بانتخابات تعيد تثبيت طبقة سياسية هاوية، وفي الوقت نفسه متكالبة على الحكم، وتضع كلّ جهدها لأجل هذه المعركة.

ووجد الشعب نفسه يتحمل نتائج خيارات هذه الطبقة اقتصاديا واجتماعيا، والمثير للسخرية أن الطبقة الجاهلة بالسياسة وبتقاليد الحكم مرت بسرعة قصوى إلى تنفيذ سياسات اقتصادية تقوم على التقشف وزيادة الضرائب وترك الدينار يواجه مصيره من دون أن تضع أي خطط للحد من آثار هذه الخطوات على اقتصاد هش بطبعه، وهي تتصرف كأنما تمارس القمار بأن تستمر في ضخ الأموال وتحمل الخسائر على أمل أن تستعيد المبادرة مجددا.

ومن المفارقة أن حافظ قائد السبسي، المدير التنفيذي لحزب نداء تونس، وهو الحزب الحاكم الرئيسي، وفي سياق شرعنة مساعيه للإطاحة برئيس الحكومة يوسف الشاهد، الذي صعّده الحزب لهذا الدور، أصدر بيانا طويلا عريضا عن مبررات الإطاحة بالحكومة ورئيسها، ومما جاء فيه تساؤلات إنكارية عما قدمته هذه الحكومة في الحد من تدهور المقدرة الشرائية للشعب التونسي، والانهيار المريع لكل المؤشرات الاقتصادية، فضلا عن التداين من أجل خلاص رواتب القطاع العام.

اتهامات الشخصية الأولى في الحزب الحاكم للحكومة بالفشل لا تعني سوى أنه نأى بنفسه عن حكومة شكلها حزبه ويديرها رئيس حكومة ووزراء أغلبهم من النداء. وهو ما يعني أن الرجل لا ينظر إلى المشهد إلا بمنظار مصالحه المباشرة وحساباته، وأن الرؤى الاقتصادية التي تنفذ لم تكن تعنيه وحزبه إلا بقدر ما تعود به من منافع في معركة التموقع داخل الحكومة.

وليس حافظ قائد السبسي سوى نموذج لطبقة سياسية تعتمد الهروب إلى الأمام في التعاطي مع أزمات بلادها، ولا تفكر سوى في الاستفادة الحزبية والشخصية المباشرة من حالة الضعف التي تعيشها مؤسسات الدولة، ومن انتقال ديمقراطي بلا هوية واضحة، أحيانا يميل إلى الراديكالية وأحيانا أخرى إلى الاندماج مع الدولة العميقة، ويوفر مسارب قانونية لتبييض الفساد ويتصالح مع البيروقراطية وفق مصالح الطبقة السياسية الجديدة المتذبذبة.

وتتصرف الأحزاب والنقابات وكأن تونس في معزل عن المتغيرات الكبرى في العالم وتأثيرها على البلاد. وبدل التحرك للتخفيف من آثار الأزمة الاقتصادية العالمية على تونس والبحث عن بدائل لإنعاش الاقتصاد، نجد هؤلاء ضائعين في التفاصيل الصغيرة شعارهم “أحيني اليوم واقتلني غدا”.

فقدت تونس خلال سبع سنوات من انتقالها السياسي الطريق إلى المال الخليجي بسبب حسابات سياسية لحكومات ما بعد 2011 وإلى الآن.

وتغفل هذه الطبقة، عن وعي وفي سياق الحرب على المواقع، أنها تقدم صورة سيئة عن تونس ليس فقط كانتقال ديمقراطي كان ينظر إليه عالميا بوصفه نموذجا للانتقال الهادئ في المنطقة، ولكن من زاوية أن البلاد لا تشهد الاستقرار السياسي الذي يساعد على جذب الاستثمارات الخارجية التي توفر الأمل الوحيد للاقتصاد بالتعافي.

كما أن استدراج الاتحاد العام التونسي الشغل إلى اللعبة السياسية في 2011، ليتحول لاحقا إلى حزب سياسي بيافطة نقابية، أدى إلى معضلة مفصلية تقوم على مقايضة اندراجه في اللعبة بترضيات مالية وزيادات متتالية لاسترضاء النقابات القطاعية وترويض منتسبيها، وهو ما زاد من شكوك المؤسسات المالية الدولية في إمكانية أن تقود الطبقة السياسية الحالية عملية إنقاذ الاقتصاد على أسس متينة تعطي مؤشرات سريعة للتعافي ما يشجع المستثمرين المحليين والأجانب على الثقة في الاقتصاد التونسي.

وفيما ينتشي البعض من السياسيين بالشعارات القديمة الحالمة التي تحثّ على مكافحة الارتهان للصناديق الدولية، فإن الأحزاب المشكلة للحكومة، والحزام السياسي لها (وثيقة قرطاج 1 و2) لم تكن تضع في حسابها التحوّلات المتسارعة التي يعيشها شركاؤها الاقتصاديون، وهي تحوّلات لم تعد تسمح بتحمل فوضى إدارة الأزمة التي تنفذ في تونس تحت مسوغ أن الانتقال الديمقراطي يسمح بكل شيء بما في ذلك رهن مستقبل البلاد للغموض، وترك السياسيين فاقدي الخبرة، أو الذين يغلب على اهتمامهم لعبة المواقع، قيادة المرحلة للوبيات متنفذة.

بعض المسؤولين يقولون إن تونس ستجتاز الأزمة مع الوقت في ظل استفادتها من المظلات القديمة التي كانت تتحرك ضمنها، خاصة فتح السوق أمام الجزائريين والليبيين، وهذا أمر يبدو غير مراع للتحوّل الذي يجري في الجزائر وليبيا، حيث غادر البلَدان النفطيان مرحلة الرخاء والإنفاق السخي من الدولة على مواطنيها، وصارا يعيشان حالة انكماش حقيقية مع تقلّص عائدات النفط.

فالجزائريون الذين كانوا يتدفقون بأعداد كبيرة وينفقون أمولا كثيرة في السياحة وشراء البضائع لم يعد وضع بلادهم يسمح بنفس النسق من الإنفاق، والليبيون أيضا هناك مؤشّرات كثيرة على حالة الانكماش التي تعيشها بلادهم، فضلا عن بحث البعض منهم عن بدائل أخرى سواء في السياحة أو الرحلات العلاجية.

والأمر نفسه ينطبق على أوروبا التي تعد الداعم الأول لتونس بعد الثورة في محاولة منها لترشيد الانتقال الديمقراطي ورعاية تجربة سياسية هادئة على حدودها الجنوبية تساعدها على محاربة موجات الهجرة، فضلا عن التنسيق الأمني بخصوص الجماعات المتشددة التي استفادت من حالة الفوضى والإرباك التي عاشتها تونس خلال السنوات الأولى للثورة.

كما فقدت تونس خلال سبع سنوات من انتقالها السياسي الطريق إلى المال الخليجي بسبب حسابات سياسية لحكومات ما بعد 2011 وإلى الآن. وفي ظل الوضعية الاقتصادية الصعبة والعجز عن إدارتها، تبدو الأحزاب والنقابات قد استمرأت اللعبة السياسية، التي أتقنتها حين كانت في المعارضة، وهي فن توجيه الضربات للخصوم وخلط الأوراق بالشكل الذي يمنع أي جهة من الإمساك بالوضع وإدارته وتحمل نتائجه في ما بعد.

ويحسب للرئيس التونسي الباجي قائد السبسي أنه سعى إلى جمع مختلف الأحزاب والمنظمات النقابية والقطاعية في هيكل استشاري واسع لدعم الحكومة وتقديم أفكار وبرامج تساعدها على التعاطي مع الأزمات، والأهم من هذا كله، إلزام الأحزاب والمنظمات بمغادرة دائرة السلبية والكف عن إرباك الحكومة وتعطيل عملها على الأرض.

وعلى العكس مما هو متوقع، انتهت أشهر من عمل هذا الهيكل الاستشاري (وثيقة قرطاج1 و2)، بأن تحول إلى وسيلة ضغط وإرباك لحكومة يوسف الشاهد ودفعه إلى الاستقالة لحسابات خاصة باتحاد الشغل وحزب نداء تونس.

ويروجُ على نطاق واسع أن البرود في علاقة الشاهد بنداء تونس، الحزب المكلف بتشكيل الحكومة، يعود إلى سياسة النأي عن الحزب التي اتبعها الشاهد من البداية وتجنبه لأسلوب المجاملات والولاءات في اختيار مساعديه من أبناء الحزب ومن خارجه.

والأمر نفسه هو ما يفسر برود العلاقة مع اتحاد الشغل الذي سعى أمينه العالم نور الدين الطبوبي لإقناع الشاهد بتغيير بعض الوزراء الذين لم يستسغ الاتحاد أسلوبهم في إدارة الحوار مع النقابات، لكن الشاهد تمسّك بأنّه صاحب القرار الأوّل والأخير، دون أن يقفل الباب أمام النصائح والأفكار الجديدة.

___________________________________________________________

*مختار الدبابي كاتب | وصحفي تونسي.

 

شاهد أيضاً

أردوغان الرّابح الأكبر من صراع الناتو وروسيا | فاضل المناصفة

تحاليل _ تحاليل سياسية _ أردوغان الرّابح الأكبر من صراع الناتو وروسيا | فاضل المناصفة* …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.