الرئيسية | تحاليل سياسية | تونس: استعصاء النقطة 64

تونس: استعصاء النقطة 64

تحاليل _ تحاليل سياسية _ تونس: استعصاء النقطة 64

دفعت النقطة 64 من وثيقة قرطاج 2 والمتعلقة بمصير رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد إلى دفن الوثيقة برمتها عبر تعليق العمل بها، ولن نجانب الصواب إن اعتبرنا أنها ستكون لها تداعيات خطيرة جدا في مستوى طبيعة عمل الحكومة التي ستتحوّل إلى حكومة عاجزة عن التفاوض مع الأطراف الاجتماعية وقاصرة عن التوجه إلى البرلمان لاستصدار موافقة على أي قرار سياسي سيادي.

ما كان للرئيس الباجي قائد السبسي أن يحول ملف الإطاحة بيوسف الشاهد إلى مجلس النواب، لو لا معرفته التامة بأن المسألة شبيهة بحقل ألغام شديدة الخطورة.

يدرك السبسي أنّ إبقاء الحكومة بقرار من قرطاج سيفضي إلى انخراط المنظمة الشغيلة ومنظمة الأعراف في حرب استنزاف مطلبي ضد الحكومة ستضع البلاد على حافة الهاوية.

كما يدرك أنّ الذهاب برأس يوسف الشاهد في هذا الوقت تحديدا يحمل الكثير من المخاطر لا فقط في مستوى العلاقة مع حركة النهضة التي تصطف بشكل تلازمي وراء الشاهد وكأنه من قيادات الحركة، ولا أيضا في مستوى الاهتزاز والاضطراب اللذين سيحدثهما أي تغيير للحكومة وبداية مشوار تعيين أخرى، بل وهو الأهمّ أنّ حزب نداء تونس ليس في الوضع المريح الذي يمكنه من أن يتلقى ضربة انشقاق جديدة من مؤيدي الشاهد الذي لن يقبلوا بأن يرمى “يوسف” في غياهب النسيان إلى ما بعد الانتخابات الرئاسيّة.

ولئن كانت نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة والتي خسر فيها نداء تونس نحو مليون صوت، بسبب خيبة الأمل الجماعية من الحزب والتي تمثل الانشقاقات وحروب الأخوة الأعداء أبرز تجليات هذه الخيبة، فإن انسلاخ جناح جديد من الحركة من أتباع يوسف الشاهد، لن يزيد الحزب إلا ضعفا وهوانا، وهو على قاب قوسين أو أدنى من الانتخابات الرئاسية والبرلمانيّة.

ولئن اختار الرئيس السبسي التضحية بوثيقة قرطاج 2، والتي في حال إقرارها كانت ستذهب برأس الشاهد فلأن الحقيقة السياسية أن الشاهد، مختلف تمام الاختلاف، وضعية وشخصية، عن رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد الذي لم يتردد السبسي في حسم مصيره.

فيوسف الشاهد يعتبر من الشخصيات الندائية الوازنة، صحيح أنه لم يكن يوما من القيادات المؤسسة ولا من الشخصيات الكاريزماتية، ولكن الصحيح أيضا أن السبسي استعان به أكثر من مرة للتحكيم في شؤون الحزب، من بينها تعيينه رئيسا للجنة 13، للتفاوض والوساطة مع الأطراف الغاضبة في النداء في 2015 والتي اختارت في وقت لاحق الرحيل والانشقاق.

كما أنّ الشاهد بنى شرعيته وجزءا من شعبيته على محاربة الفساد، وهو مجهود رغم ضعفه في الكثير من الملفات إلا أنه كان استثنائيا في تاريخ الدولة التونسية برمتها والتي تعاني هيكليا من أوبئة “الديوانة والضريبة” على قول ابن أبي ضياف في الإتحاف.

إن كان الخلاف بين حافظ قائد السبسي والصيد، القشة التي قصمت ظهر حكومة الأخير، فإن الخلافات السياسية بين السبسي الصغير والشاهد من الأوزار التي تتحمّلها منظومة الحكم في البلاد، وفق رؤية السبسي الكبير وراشد الغنوشي.

المفارقة أن تونس التي تحتاج اليوم إلى كتلة تاريخية وتوافق سياسي واسع لمجابهة الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي تعصف بها، تجد نفسها اليوم في خضم محنة سياسية كبرى حيث أنّ الخيارات المطروحة عليها متراوحة بين السيء والأسوأ.

في تونس اليوم، يستحيل تشكيل حكومة دون قبول النهضة والنداء، ويعسر إسقاطها دون إقرار النهضة والنداء، وتصعب إدارة الحُكم دون توافق مع اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف، وطالما أنّ معالم الرضا على الشاهد مستعصية فإن حكومته إن واصلت عملها في القصبة فلن تستطيع دخول باردو، وستتحوّل من حكومة غالبية برلمانية إلى حكومة أقلية تشريعية، جاءت بحصول الغالبية وبقيت بسبب افتقاد النصاب.

المفارقة أنّ الشاهد يدرك أن النهضة التي تدعمه، قادرة على منع الإطاحة بحكومته ولكنها عاجزة عن إعطائه الشرعية، ومستعدة لأن تدافع عنه في السياسات ولكنها قاصرة عن منحه الغالبية البرلمانية في القرارات السيادية الكبرى، الأمر الذي يحوّل الحكومة إلى حكومة بلاغات وقرارات وبيانات يومية.

نجحت حركة النهضة والأطراف المؤيدة لها في المحافظة على الحكومة، ولكن لا مؤشر على أنها ستكون قادرة على تأمين منظومة الحكم التي جاءت بالشاهد رئيسا للحكومة.

المفارقة أنّ نكسة “النقطة 64” حوّلت النقاش من مصير الدولة التونسية المدينة من أكثر من جانب والتي يدق أبوابها بكثير من الصلف والعنجهية المانحون الدوليون، إلى مصير يوسف الشاهد، وعوضا عن تقديم حلول حقيقية في إدارة البلاد وإنجاز المشاريع وتحقيق التنمية حصرت النقاش في أداء حكومة لم يبق من عمرها الحقيقي والافتراضي أكثر من عام ونصف العام.

أمّا النكسة الأعظم، أنّها لن تزيد تونس في حال تعويض الشاهد إلا رقما جديدا وحلقة حديثة من مسلسل الحكومات المتعاقبة والمتناسلة والمتشابهة من حيث الفشل، وفي حال بقائه ستحوله إلى “بطّة عرجاء” عاجزة عن الذهاب إلى البرلمان أو الدخول في أي مفاوضات مع القوى الاجتماعية الكبرى.

________________________________________________________________

*أمين بن مسعود | كاتب ومحلّل سياسي تونسي.

شاهد أيضاً

أردوغان الرّابح الأكبر من صراع الناتو وروسيا | فاضل المناصفة

تحاليل _ تحاليل سياسية _ أردوغان الرّابح الأكبر من صراع الناتو وروسيا | فاضل المناصفة* …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.