الرئيسية | تحاليل إجتماعية | الزّاحفون: نموذج‮ “‬اللاحركات الاجتماعية‮” ‬في تحليل سياسات الشّارع |بقلم: رضوى عمّار.

الزّاحفون: نموذج‮ “‬اللاحركات الاجتماعية‮” ‬في تحليل سياسات الشّارع |بقلم: رضوى عمّار.

تحاليل _ تحاليل اجتماعية _ الزّاحفون: نموذج‮ “‬اللاحركات الاجتماعية‮” ‬في تحليل سياسات الشّارع |بقلم: رضوى عمّار.

تشهد المنطقة العربية في فترة ما بعد الثورات العديد من التحركات في الشارع،‮ ‬والتي تقوم بها قوى لا تنتمي إلى حركات اجتماعية محددة،‮ ‬فهي‮ ‬غير منظمة،‮ ‬وليست لها قيادة واضحة،‮ ‬ولا أيديولوجية محددة‮. ‬وتحليل هذه التحركات من خلال مدخل الحركات الاجتماعية لا يوفر فهما متكاملا لها،‮ ‬فنظريات الحركات الاجتماعية تعكس خبرات المجتمعات الغربية بشكل رئيسي،‮ ‬وتركز على الحركات الاجتماعية التي هي عبارة عن كيانات تتسم إلى حد كبير بالتنظيم والاستدامة‮.

وغالبا ما تكون لها قيادة تلعب دورا محوريا في توجيه نشاطها وأهدافها،‮ ‬وفي ممارسة المزيد من الضغوط على السلطات من أجل تلبية مطالبها‮. ‬وفي هذا الإطار،‮ ‬تعرض هذه الورقة مدخل اللاحركات الاجتماعية ‮ ‬Social Non-Movements الذي طوره آصف بيات،‮ ‬باعتباره الأكثر تعبيرا والأكثر قدرة على تحليل ما تشهده الدول العربية من حراك سياسي (‮1).ويعد هذا المدخل من المحاولات الجادة في دراسة وتحليل توجهات الشارع وتفضيلاته،‮ ‬ولكنه من المداخل التي لم تتم دراستها بصورة معمقة بعد،‮ ‬واختبار مقولاته‮.‬

اللاحركات الاجتماعية‮ .. ‬التعريف والديناميكيات‮:‬

يقصد بمفهوم اللاحركات الاجتماعية الأنشطة الجماعية التي يقوم بها فاعلون‮ ‬غير جمعيين ‮ ‬non-collective actors . ويمكن تحديد أربع سمات رئيسية لها‮. ‬تتمثل السمة الأولي في أنها عبارة عن ممارسات يشترك في القيام بها أعداد كبيرة من البشر العاديين دون اتفاق فيما بينهم‮. ‬وتتعلق السمة الثانية بأنه ينتج عن تشابه ممارساتهم تغيير اجتماعيا ما.وتنصرف السمة الثالثة إلى أنه نادرا ما يتحكم في أنشطتهم أيديولوجية معينة‮. ‬وتتعلق السمة الرابعة بأنه عادة لا تكون هناك قيادات أو منظمات معروفة،‮ ‬فهؤلاء الفاعلون‮ ‬يعملون بصورة تلقائية،‮ ‬ويبدأ تحركهم برد فعل فردي يتسم بالعفوية في تعاطيه مع متغيرات الواقع‮.‬

وقد ذكر آصف بيات ثلاث ديناميكيات خاصة باللاحركات الاجتماعية‮.
‬تتمثل الديناميكية‮ ‬الأولي في الزحف البطيء ‮ ‬Quiet Encroachment.وتركز هذه الديناميكية على العدد،‮ ‬فقوة تأثير اللاحركات الاجتماعية ترتبط بتآلف سلوك أعداد كبيرة من البشر تدريجيا،‮ ‬حيث يقوم‮ ‬أفراد،‮ ‬لا يوجد ارتباط أو اتفاق فيما بينهم،‮ ‬بمجموعة من الأنشطة والسلوكيات التي تكتسب نمطا معينا بمرور الزمن،‮ ‬والتي تهدف للحصول على الضروريات الأساسية للحياة‮. ‬وعادة ما يصاحب القيام بهذه الأنشطة مخالفة هادئة للقانون،‮ ‬أي أن الزحف البطيء لا ينطوي على استخدام أدوات العنف‮. ‬وتستمد شرعية هذه الأنشطة من جماعية السلوك لعدد كبير من البشر‮.‬

وقد حلل بيات في كتابه العديد من الأمثلة التي تعبر عن هذه الديناميكية في المنطقة العربية،‮ ‬خاصة في الحالة المصرية،‮ ‬ومنها قيام سكان العشوائيات في المناطق الحضرية ببناء مساكن على أراض على نحو يخالف قانون الدولة،‮ ‬واعتمادهم على أنفسهم في الوصول إلى المياه وخطوط التليفون،‮ ‬وغيرها من وسائل المعيشة،‮ ‬دون الرجوع إلى سلطات الدولة‮. ‬كذلك قيام صغار الباعة ببيع البضائع على الأرصفة،‮ ‬وانتشار ظاهرة الباعة الجائلين في منطقة وسط البلد‮. ‬ويفسر بيات هذا السلوك بأنه محاولة من الفقراء في المناطق الحضرية،‮ ‬للتعامل مع تأثير السياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة،‮ ‬ومع فشل الدولة في تلبية احتياجاتهم بالاعتماد على أنفسهم‮. ‬وحلل بيات كذلك اللاحركات الاجتماعية الشبابية في مصر،‮ ‬وانتهي إلى أنها تتعامل مع الفضاء الإلكتروني،‮ ‬بوصفه المجال العام الرئيسي الذي تمارس أنشطتها من خلاله‮. ‬ورأي أن حركة‮ ‬6 أبريل قد نجحت في استخدام أدوات الفضاء الإلكتروني،‮ ‬مثل الفيسبوك،‮ ‬في حملتها التي استهدفت مواجهة القمع السياسي،‮ ‬والركود الاقتصادي والمحسوبية‮.

وتتمثل الديناميكية الثانية في‮ ‬الشبكات السلبية ‮ ‬Passive Networks وتعد هذه الديناميكية أحد الملامح الرئيسية في تكوين اللاحركات،‮ ‬وهي قد تأخذ إحدي صورتين‮. ‬تتمثل الصورة الأولي في التواصل الفوري الذي يتم بين عدد صغير من الأفراد،‮ ‬وذلك بناء على إدراك ضمني بين هؤلاء الأفراد بوجود قواسم مشتركة أو هوية مشتركة تجمعهم،‮ ‬وذلك إما بشكل مباشر عبر الأماكن العامة،‮ ‬أو بشكل‮ ‬غير مباشر من خلال وسائل الإعلام‮. ‬فعلى سبيل المثال،‮ ‬وجد بيات أن شبكات الاتصال بين الباعة الجائلين تقوم على إدراكهم بوجود مشكلات مشتركة يعانونها،‮ ‬وهو ما يحدث نتيجة ملاحظة أحدهم للآخر بشكل يومي عبر زوايا الشوارع المختلفة،‮ ‬وذلك رغم عدم معرفة أحدهم للآخر،‮ ‬أو أنها معرفة قائمة على مجرد تبادل الأحاديث‮. ‬فالملاحظة المباشرة هي التي ولدت هذا النوع من التواصل في تلك اللحظة‮. ‬كما أن التشابه بين الشباب في الأزياء،‮ ‬وتسريحات الشعر،‮ ‬وغيرها من الأمور،‮ ‬سواء في الشارع أو في الكليات والجامعات،‮ ‬يسمح بنوع من التواصل العفوي،‮ ‬الذي لم يتم عبر اتفاق مسبق بين هؤلاء الأفراد‮.‬

وتتمثل الصورة الثانية في حالة الجماعات المشتتة،‮ ‬التي لا‮ ‬يوجد حيز مشترك يجمعها،‮ ‬مثل المهاجرين‮ ‬غير الشرعيين‮. ‬فغياب هذا الحيز المشترك يفقد هذه الجماعة حالة التضامن فيما بين أفرادها،‮ ‬وذلك على الرغم من وجود قواسم مشتركة بينهم،‮ ‬مثل الانتماء إلى البلد ذاته وربما المدينة،‮ ‬والتحدث باللغة ذاتها‮. ‬في حين أن معدل التضامن بينهم يزداد،‮ ‬عندما يوجدون في مكان العمل نفسه،‮ ‬أو مراكز الاحتجاز،‮ ‬أو المجمعات السكنية‮.‬

ومن ثم،‮ ‬تعتمد هذه الجماعات على وسائل الاتصال،‮ ‬والشبكات عبر المسافات ‮ ‬Distanciated Networks والتي يقصد بها أن يكون هناك شخص يعرف شخصا آخر،‮ ‬والذي بدوره يعرف شخصا آخر في الوضع نفسه،‮ ‬مما يسهل بناء ما يطلق عليه التضامن التخيلي ‮ ‬Imagined Solidarities.ويؤكد بيات أن تكنولوجيا المعلومات الجديدة،‮ ‬وبشكل خاص مواقع الشبكات الاجتماعية مثل الفيسبوك،‮ ‬يمكنها أن تتجاوز قيد الحيز المادي من خلال ربط الأفراد عبر عالم الإنترنت،‮ ‬ومن ثم إتاحة فرصة هائلة لبناء كل من الشبكات السلبية والنشطة‮.‬

ويشير بيات إلى أن الذي يربط بين الشبكات السلبية والفعل الجمعي المحتمل هو وجود إدراك بتهديد مشترك،‮ ‬يحاول هؤلاء الأفراد مواجهته عبر هذه الشبكات‮. ‬فبينما ترتبط نشأة اللاحركات بأعمال فردية مباشرة تهدف إلى خلق مكاسب على أرض الواقع،‮ ‬فإن الدفاع عن هذه المكاسب،‮ ‬حال تعرضها للتهديد،‮ ‬غالبا ما يتم على نحو جمعي،‮ ‬حيث يتحول الفاعلون في الشبكات السلبية إلى التواصل النشط والمقاومة المنظمة‮. ‬فعلى سبيل المثال،‮ ‬يقوم كل فرد من الباعة الجائلين في الشوارع بسلوك عفوي يحقق مصلحته،‮ ‬ويفرض من خلاله ممارساته كسياسة‮ ‬أمر واقع،‮ ‬وهذا السلوك يتشابه مع مجموع سلوكيات باقي أفراد الباعة الجائلين‮.‬وفي حال ما إذا أدرك هؤلاء الباعة وجود تهديد مشترك،‮ ‬فمن المرجح أن يتم التواصل بينهم،‮ ‬حتي وإن لم يكن هناك تعارف أو تخطيط مسبق بينهم‮.‬

وهذا الوضع حدث في المراحل الأولي للثورة التونسية‮. ‬فبعدما‮ ‬أضرم محمد البوعزيزي،‮ ‬أحد الباعة الجائلين،‮ ‬النار في نفسه،‮ ‬احتجاجا على مصادرة أحد أفراد الشرطة التونسية عربة بيع الخضار والفاكهة الخاصة به،‮ ‬فضلا عن رفض سلطات المحافظة قبول شكواه،‮ ‬قام الباعة الجائلون في المنطقة التي يسكن فيها البوعزيزي بالتضامن معه،‮ ‬الأمر الذي تطور إلى مسيرات حاشدة،‮ ‬جمعهتا حالة التضامن التي ارتبطت بإدراك وجود تهديد مشترك يستهدفهم كباعة،‮ ‬فكانت تلك اللاحركات بمثابة نواة شعلة الثورة التونسية‮.

‬كما‮ ‬ترتب على ذلك قيام عدد كبير من المواطنين العرب بالسلوك نفسه في الوقت نفسه لأسباب متشابهة،‮ ‬وهو ما أطلق عليه البعض ظاهرة البوعزيزية‮ .‬وبالتالي،‮ ‬تكمن أهمية مفهوم الشبكات السلبية في إمكانية تعبئة عدد صغير من الأفراد للقيام بعمل جمعي في لحظة ما،‮ ‬دون وجود شبكات نشطة تربطهم قبل تلك اللحظة‮. ‬فالشارع يمثل مجالا عاما يتيح تعبئة الناس من خلال الشبكات السلبية‮. ‬وبمجرد أن يواجه الفاعلون الأفراد،‮ ‬أو الزاحفون‮ ‬The Encroachers تهديدا،‮ ‬فمن المرجح أن تتحول شبكاتهم السلبية إلى تنشيط حالة التواصل والتعاون فيما بينهم لمواجهة هذا التهديد‮.‬

وتنصرف الديناميكية الثالثة إلى فن الحضورThe Art of Presence وترتبط هذه الديناميكية بمدي الشجاعة والإبداع الذي يمكن أن تتحلي به هذه اللاحركات في تأكيد إرادتها الجمعية،‮ ‬وذلك من خلال الاستفادة من كل ما هو متاح من إمكانيات في اكتشاف مساحات جديدة تمكنها من أن تكون مسموعة ومرئية،‮ ‬ويمكن الشعور والاعتراف بها‮.‬

وهذه الديناميكية تساعد المجتمع من خلال سير الحياة اليومية فيه بتفاصيلها،‮ ‬على أن يعيد تجديد نفسه،‮ ‬وذلك عن طريق تأكيده قيمه التي تفرض وعيه الجمعي في نظام الدولة ومؤسساتها‮. ‬فالمجتمع يستفيد من فكرة،‮ ‬مفادها أن الأنظمة الاستبدادية قد تكون قادرة على قمع الحركات المنظمة،‮ ‬ومقاومة الصمت الجماعي،‮ ‬لكن تظل قدراتها محدودة فيما يتعلق بقمع المجتمع بأكمله،‮ ‬أي جماهير المواطنين العاديين في حياتهم اليومية‮. ‬فالتحدي في هذه الحالة يكون موجها للقيم والقواعد والمؤسسات التي يتشكل منها نسيج المجتمع ككل‮.‬

ويلاحظ أن بيات شبه نشاط هذه اللاحركات بورم السرطان الذي لا يمكن رؤيته إلا بعد الوصول لمرحلة اللاعودة،‮ ‬فسلطات الدولة لا تستطيع إدراك نشاط هذه اللاحركات،‮ ‬إلا بعد أن يصعب التعامل معها‮. ‬وبالتالي،‮ ‬يمكن القول إن أهمية هذه اللاحركات لا تكمن في تحدي السلطة الرئيسية‮ (‬نظام الدولة‮) ‬بصورة مباشرة،‮ ‬وإنما من خلال توليد وضع جديد على أرض الواقع‮.‬

هل تعبر اللاحركات الاجتماعية عن مزاج الشارع العربي؟

في مرحلة ما بعد الثورات التي تمر بها دول مثل تونس ومصر وليبيا،‮ ‬لم تنته حالة الحراك المجتمعي ‮ ‬Social Struggles فلا تزال هناك مطالب قديمة،‮ ‬وأخري جديدة بحاجة إلى التفاوض حول كيفية حلها‮(2). وجزء من هذا الحراك يمكن فهمه من خلال مدخل اللاحركات الاجتماعية‮. ‬وفي هذا الإطار،‮ ‬يمكن رصد عدة ملاحظات‮.‬

تتعلق الملاحظة الأولي بأن الديناميكيات التي تتعلق بالزحف الهادئ اتبعها أفراد ينتمون لقطاعات مختلفة ومتنوعة في الدول العربية،‮ ‬وقد تطورت إلى شبكات سلبية‮. ‬ومثال على ذلك،‮ ‬المظاهرات الفئوية التي شهدتها مصر في مرحلة الثورة وما بعد الثورة،‮ ‬فمن شارك في هذه المظاهرات لا ينتمون إلى تنظيم معين،‮ ‬وليست لهم قيادة توجههم،‮ ‬ولكن لهم مطالب مشتركة مثلت ثورتهم الخاصة‮.‬

وتتعلق الملاحظة الثانية بأن اللاحركات الاجتماعية في المنطقة العربية تعبر بشكل أساسي عن الطبقات الفقيرة والمتوسطة‮. ‬وهنا،‮ ‬تجدر الإشارة إلى ما ذكره بيات في حوار،‮ ‬أجري معه عقب اندلاع الثورات العربية،‮ ‬من أن الطبقة المتوسطة الفقيرة ‮ ‬Middle-Class Poorكانت اللاعب الرئيسي في الثورات العربية‮. ‬وجادل بأن الأوضاع الاقتصادية في المنطقة العربية أفرزت طبقة متوسطة تتمتع بقدر من التعليم والوعي،‮ ‬وفي الوقت نفسه،‮ ‬لديها طموحات وتوقعات كبيرة،‮ ‬وقد فشلت شريحة كبيرة من هذه الطبقة في تحقيق هذه الطموحات‮.

‬فمثلا،‮ ‬سكان العشوائيات في مصر ليسوا فقط من الأميين والقرويين،‮ ‬أو ممن يعانون الفقر المدقع،‮ ‬حيث تشمل هذه الفئة شرائح أخري من الحضر،‮ ‬مثل موظفي الحكومة محدودي الدخل،‮ ‬وحديثي الزواج،‮ ‬والمهنيين من صغار المحامين والمدرسين،‮ ‬حيث أصبحوا من سكان العشوائيات،‮ ‬بعد أن عجزوا عن الحصول على أماكن للسكن في المناطق المخططة رسميا كمناطق سكنية‮.‬

كما‮ ‬يلاحظ أثناء الثورة في مصر،‮ ‬أن الطبقة المتوسطة كان لها وجود في ميدان التحرير،‮ ‬وهو الحشد الذي لم يكن قد تألف بناء على اتفاق مسبق‮. ‬فقد جاءت حالة التضامن نتيجة إدراك مشترك بين أفراد هذه الطبقة بتهديد طموحاتهم،‮ ‬حيث ترجم انتماءهم إلى الطبقة الوسطي،‮ ‬التي تعبر عن صورة من صور الشبكات السلبية،‮ ‬إلى فعل جمعي تمثل في الاحتشاد في ميدان التحرير،‮ ‬وترديد جماعي لهتافات من قبيل‮ “‬الشعب يريد إسقاط النظام‮”.‬

وتنصرف الملاحظة الثالثة إلى أن هناك لاحركات اجتماعية خاصة بالفقراء،‮ ‬لم تندمج في الثورة المصرية منذ البداية،‮ ‬وهو ما فسره بيات بكون الثورات تعد أحداثا مجردة ومحفوفة بالمخاطر،‮ ‬ولا تقبل كل القوى الاجتماعية دمجها في ممارسات حياتها إلىومية‮. ‬فطبقة الفقراء تميل إلى عدم التورط فيما لا تعده من شئونها الخاصة،‮ ‬وفيما لا تستطيع التحكم فيه‮.‬

ولكنه أشار إلى أنه بعد نجاح الثورات،‮ ‬يتم حشد هذه اللاحركات المترددة،‮ ‬خاصة فيما يتعلق‮ ‬بالقضايا التي تتصل باهتمامها المباشر،‮ ‬وذلك نتيجة ثقتها في عدم وجود عوائق تعترض مساحة الحرية الجديدة التي أصبحت تتمتع بها‮. ‬فعلى سبيل المثال،‮ ‬استفاد الفقراء في تونس من‮ ‬غياب الشرطة،‮ ‬واحتلوا الشوارع،‮ ‬ونشروا بضائعهم‮. ‬بمعني آخر،‮ ‬قام الفقراء بثورتهم الخاصة‮.‬

وتنصرف الملاحظة الرابعة إلى أن ما تشهده دول،‮ ‬مثل مصر،‮ ‬من مظاهرات فئوية متعددة في المدينة ذاتها وفي التوقيت ذاته،‮ ‬هو ناتج عن وجود إدراك مشترك يجمع الأفراد المشاركين فيها بوجود تهديد مشترك واقع عليهم‮. ‬ومن ثم،‮ ‬كان تحركهم على نحو عفوي،‮ ‬بمعني أنه لم يكن هناك اتفاق مسبق بين فئات سائقي النقل العام،‮ ‬والعاملين في المصانع مثلا،‮ ‬حول آليات التحرك وطبيعة السلوك،‮ ‬أو الهدف المشترك‮. ‬فعلى سبيل المثال،‮ ‬بدأ إضراب عمال النقل العام في مصر بتجمعات صغيرة من السائقين،‮ ‬ثم شمل عاملين في مواقف بعينها،‮ ‬ثم امتدت الظاهرة لتشهد حالة تضامن بين جميع مواقف نقل الهيئة العامة للنقل في القاهرة الكبري‮. ‬وقد لوحظ في الوقت نفسه أن بعض خطوط النقل لم تلتزم بالإضراب،‮ ‬لأنها رأت فيه ضررا لمصالحها الخاصة،‮ ‬وهو ما يعكس عدم وجود قيادة موجهة لهذه السلوكيات‮ (3). ويلاحظ أن معظم الفئات،‮ ‬على تنوعها،‮ ‬تحركت نحو مقر مجلس الوزراء المصري،‮ ‬فكان هذا هو الحيز المكاني الذي جمع مختلف هذه القطاعات،‮ ‬والذي استغلته في إبراز مطالبها‮.‬

“‬حدود‮” ‬تأثير اللاحركات الاجتماعية‮:‬

تتسم اللاحركات الاجتماعية بالعفوية،‮ ‬ولا ترتبط برؤية واضحة،‮ ‬ولذلك تتردد الدول في بلورة ردود فعل تجاه هذه اللا حركات‮. ‬ورغم حديث البعض عن أن الثورات التي تجري الآن في المنطقة العربية هي ثمار السياسات الأمريكية لإدارة جورج بوش الابن،‮ ‬التي تبنت مفهوم الفوضي الخلاقة ‮ ‬Constructive Chaos فإنه وبافتراض صحة هذه الفرضية،‮ ‬كان لابد أن تكون هناك رؤية واضحة لتعامل الإدارة الأمريكية مع الواقع الذي قد يفرزه إحداث هذه الفوضي،‮ ‬وهو ما لا تعكسه قراءة سياسات الولايات المتحدة التي جاءت مرتبكة في التعامل مع الثورة في مصر،‮ ‬على سبيل المثال (‮‬4).

ويلاحظ أن تأثير اللاحركات الاجتماعية في سياسات الدول الخارجية هو أكثر وضوحا في سياسات الدول الأخري التي تتعامل مع الدولة التي تشهد تزايدا في نشاط اللاحركات الاجتماعية،‮ ‬بحيث تكون أكثر رغبة في اعتماد أدوات الدبلوماسية الشعبية في التعامل مع تلك الدولة‮. ‬فعلى سبيل المثال،‮ ‬حرصت وزيرة الخارجية الأمريكية،‮ ‬هيلاري كلينتون،‮ ‬على لقاء الشباب المصري في حوار تفاعلى عبر الإنترنت،‮ ‬قام من خلاله الشباب المصري بطرح تساؤلاته ورؤيته للمستقبل‮(5).

وهذا التواصل المباشر مع شباب الثورة هو شكل من أشكال الدبلوماسية الشعبية،‮ ‬الذي تهدف من ورائه الإدارة الأمريكية إلى الإجابة على عدد من التساؤلات حول نوع التغيير الذي سوف تفرزه هذه المرحلة،‮ ‬وهل سوف يؤدي إلى الديمقراطية في الشرق الأوسط،‮ ‬أم إلى شرق أوسط إسلامي متطرف؟ فكما هو معلوم،‮ ‬الثورات قد لا تنتهي عادة بما بدأت به‮. ‬كما اتبعت الإدارة الأمريكية سياسات التمويل المباشر لمؤسسات المجتمع المدني في مصر،‮ ‬وليس عن طريق الحكومة المصرية،‮ ‬كما في السابق وهو ما‮ ‬يعرف بالقوة المدنية‮.‬إلى جانب ذلك،‮ ‬فإن القوى من‮ ‬غير الحركات الاجتماعية قد تضغط على المجتمع لتحقيق مطالب محددة‮. ‬إلا أنه مع تنوع هذه المطالب وتعارضها في بعض الحالات،‮ ‬قد‮ ‬يتهدد الاستقرار في المجتمع‮. ‬كما أن شبكات اللاحركات الاجتماعية قد ترتبط بمطالب محل جدل وخلاف في المجتمع‮. ‬ومن ذلك،‮ ‬على سبيل المثال،‮ ‬اللاحركات الخاصة ببعض الحريات المثيرة للجدل‮.‬

يمكن القول إن اللاحركات الاجتماعية تستطيع تقويض أركان نظام دولة ما،‮ ‬لكن تظل قدراتها على بناء نظام جديد‮ ‬غائبة،‮ ‬ما لم تتحول إلى حركات اجتماعية فاعلة في المجتمع‮. ‬فنشاط اللا حركات بمثابة تهديد لأي قواعد في المجتمع،‮ ‬وتظل حدود قدرتها على التأثير مرتبطة بقدرتها على التحول إلى حركات،‮ ‬لها هيكل منظم،‮ ‬وبرنامج واضح،‮ ‬يحدد أهدافها وآلياتها‮.‬

الهوامش‮:

1- اعتمدت هذه الورقة في الأجزاء الخاصة بمدخل اللاحركات الاجتماعية على كتاب آصف بيات‮. ‬انظر‮:‬
‮- ‬Asef Bayat, Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East, (Cairo: The American University in Cairo Press, 2009), pp. 14-50, 45, 61-63, 128,93-135, 249.
2- “Our Revolution is Civil”, An Interview with Asef Bayat on Revolt and Change in the Arab World, The Hedgehog Review, Vol. 13, Issue No. 3, Fall 2011, p51., available at:http://www.iasc-culture.org/publications_article_2011_Fall_…, (Last Accessed 28 November 2011)
3- للمزيد،‮ ‬انظر‮: “‬مظاهرات فئوية تجتاح مصر‮”‬،‮ ‬جريدة اليوم السابع،‮ ‬الأربعاء‮ ‬9 فبراير‮ ‬2011. “خبراء‮: ‬المظاهرات الفئوية بعد الثورة‮ .. ‬تهديد للاستقرار‮”‬،‮ ‬المصري اليوم،‮ ‬18 فبراير‮ ‬2011. “استمرار المظاهرات الفئوية في الجيزة‮”‬،‮ ‬جريدة الأهرام،‮ ‬28 فبراير‮ ‬2011 .”استمرار المظاهرات الفئوية أمام مجلس الوزراء‮”‬،‮ ‬جريدة الأهرام،‮ ‬30 سبتمبر ‮١١٠٢.‬
4- For Example about this confused policy Look at: Steven Cook, “Why Washington can’t stop Egypt’s Revolution”, available at: http://www.thedailybeast.com/…/egypt-why-washington-cant-st…, (date 29 January 2011), ]Last Accessed 30 November 2011[.
5-US. Department of State, “Special Briefing on U.S. support for the Democratic Transitions underway in Tunisia, Egypt, and Libya”, November 3, 2011, available at: http://www.state.gov/secretary/rm/09/2011/.174882htm, ]Last Accessed 4 December 2011[.

تعريف الكاتب:
باحثة دكتوراة في العلاقات الدولية والتنظيم الدولي، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.

شاهد أيضاً

من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري

تحاليل _ تحاليل سياسية _ من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري* تكتمل الخميس المقبل أربعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.