الرئيسية | تحاليل سياسية | البرلمانات العربية.. منابر لتمثيل الشّعوب أم مسارح للتمثيل عليها؟

البرلمانات العربية.. منابر لتمثيل الشّعوب أم مسارح للتمثيل عليها؟

تحاليل _ تحاليل سياسية _ البرلمانات العربية.. منابر لتمثيل الشّعوب أم مسارح للتمثيل عليها؟ |بقلم: حكيم مرزوقي.

“مجلس النواب”، “المجلس التشريعي”، “مجلس الشعب”، “مجلس الأمة”، “الجمعية الوطنية”، “المؤتمر العام الوطني”، كلها تسميات متعددة لمسمى واحد وهو البرلمان. فأين حدود الاقتراب أو الابتعاد بين الاسم والمسمى؟

ما حقيقة علاقة العالم العربي قديما وحديثا بهذه السلطة التشريعية العليا، والتي تقرها غالبية دساتير العالم، ووجدت منذ العصور القديمة فكانت هناك مجتمعات قبلية، ومجالس وزعماء وأسياد للقرارات داخل القبيلة؟

البرلمان في العالم العربي، هل هو مجرد مبنى فخم ذي جدران عالية وحراسات مشددة أم أن لهذا المبنى رمزية أخرى ويعد حاملا لبنية فوقية تتمثل في منظومة تشريعية تأخذ صفة المؤسسة في ثباتها وليس الشخصنة في قراراتها وأمزجتها. ما علاقة العالم العربي بالحياة البرلمانية؟ وكيف يمكن تشخيصها وسط هوامش ضيقة للحريات وسيطرة واضحة لسلطة الدولة الممسكة تقريبا بجميع السلطات والمؤسسات؟

أمر آخر لا يتعلق بهوامش الحريات المعطاة لممثلي الشعب داخل البرلمانات فحسب، بل بذهنية النائب نفسه ومدى تشبعه بالثقافة البرلمانية المبنية على المسؤولية والأمانة والثقة والنزاهة، ولماذا يعتقد النائب العربي في مجمل حالاته أن الفوز بمقعد في البرلمان هو حقيقة “فوز” من حيث هو مكسب شخصي وامتياز وظيفي وليس مسؤولية الفرد في خدمة المجموعة؟

الحياة البرلمانية العربية تشهد حراكا هذه الأيام تتراوح بين الاستحقاقات وبعض الإنجازات والكثير من الانتظارات، فهذه بضعة أسابيع متبقية على عمر البرلمان العراقي الذي كان مثيرا للجدل وحافلا بالخلافات والانقسامات طيلة الأربع سنوات الماضية. وبدأ الأعضاء من الآن بالانصراف إلى حملاتهم الانتخابية المبكرة، رغم وجود حزمة من القوانين تنتظر التصويت عليها، فضلا عن قائمة استجوابات طويلة لوزراء ومسؤولين بارزين في الدولة حول تهم الفساد والتقصير.

وهذا البرلمان المصري يعوض الانتقادات السياسية الموجهة ضده من الخارج بتحركات تخص محاصرة الرشاوى والفساد. وهؤلاء النواب الكويتيون يمنحون الثقة لوزيرة الشؤون الاجتماعية بعد استجوابها. أما النواب التونسيون فغيّروا منذ أسبوع مجريات الجلسة العامة المخصصة لمناقشة قوانين واتفاقيات مالية، إلى الاحتفاء بإحياء الذكرى الرابعة للمصادقة على دستور الجمهورية الثانية. أما السعودية فتشهد تطورات تشريعية متتالية وغير مسبوقة رحبت بها كل الأطراف الدولية.

إن تناقلت وكالات الأنباء العالمية أخبارا عن البرلمانات العربية، فإن هذه الأخبار في مجملها تتصف بالغرابة والشذوذ والممارسات والسلوكيات التي تدعو إلى السخرية من أصحابها.

فهذا يقترح تبادل القبلات بين الرجال، وذاك يرفع الأذان داخل القاعة ويقاطع زملاءه وهو يجبرهم على الصلاة جماعة، وآخر يتفوه بعبارات سوقية أو عنصرية أو طائفية وهلم جرا من المظاهر التي تدعو إلى الحيرة والتساؤل هل هناك أمل في حياة برلمانية صحية في البلاد العربية؟

مثل هذه السلوكيات تتسبب في إحداث حالة من الجدل غير المبرر من جانب الأعضاء، فضلا عن أن مثل هذه الأمور يسيء للبرلمان، ويعطى لدى الجماهير العريضة بالشارع شعورا بتدني كفاءته إجمالا، وعادة ما يقع التعميم في مثل هذه الظروف. البرلمان هيئة تمثل السلطة التشريعية في الدول الدستورية، حيث يكون مختصا بحسب الأصل بجميع ممارسات السلطة التشريعية وفقا لمبدأ الفصل بين السلطات، وليس تكريسا للجمع بينها، إذ صار مألوفا في العالم العربي أن ترى نائبا في البرلمان يتدخل لدى الشرطة أو القضاء أو الإعلام.

وما مظاهر الأعراس والكرنفالات في الحملات الانتخابية العربية إلا دليل على فهم عقيم ويتجدد باستمرار، مفاده أن مقعدا في البرلمان يعني مجموعة امتيازات وتأشيرات للقفز على القانون وتكريس كل مظاهر الفساد والتفرقة والتخلف.

لا يمكن إنكار تجارب مشرقة ومشجعة في العالم العربي، نجحت فيها الحياة البرلمانية بشكل لافت، وهو ما يبرر حتى حالات التلاسن والتصادم بين أعضاء المجلس، ذلك أنه يقيم الدليل على مدى الجدية وتحمل المسؤولية وإن وصل الأمر إلى التشنج أو حتى التشابك بالأيادي. يقول القائل: لا بأس فهذا يحدث حتى في الديمقراطيات الغربية العريقة، ولكن الفارق بين تشابك غربي وآخر عربي، هو أن الأول قام لأجل مصلحة عامة والثاني قام في سبيل مصلحة شخصية ضيقة.

فعاليات سياسية لا يمكن إنكارها

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وفي زيارته الأخيرة إلى تونس، ألقى كلمة تحت قبة البرلمان أمام نواب مجلس الشعب، وهذا خير دليل على الاعتراف الدولي بأن أعضاء هذا البرلمان العربي ليسوا مجرد دمى في يد السلطة أو محض مؤثثين ومتممين لديكور هذا الفضاء الديمقراطي بل هم فاعلون ومؤثرون داخل هذه المؤسسة الدستورية العريقة.

الأمر ينطبق على برلمانات عربية أخرى وبنسب متفاوتة، وهي برلمانات مشهود لها بعراقتها في النضال الوطني واحتضانها للكلمة الحرة، العصية على الترويض وكل أشكال المصادرة.

مؤشرات إيجابية كثيرة في السنوات الأخيرة، تقول بأن على المتشائمين والقائلين بانعدام الجدوى من البرلمانات العربية أن يعترفوا بأنه قد ولّى، أو يكاد، زمن النواب النائمين والمتثائبين والرافعين لأياديهم بالتأييد أو الإجماع قبل سماع نصوص القرارات التي تسقط فوق رؤوسهم بالإكراه من أعلى هرم السلطة.

ظهرت وما زالت تظهر نشاطات برلمانية عربية فاعلة ومؤثرة حتى في أحلك الظروف السياسية وأسوء حالات التضييق على الحريات، وتجلى ذلك في مواقف جريئة وشجاعة كلفت بعض أصحابها غاليا، لكنها تبقى لبنات أساسية لا بد منها في سبيل بناء، أو إعادة بناء، صرح الديمقراطية التشاورية، والتي ليست غريبة على المنطقة في المنتصف الأول من الققرن الماضي، وإن كان ذلك لفترات قصيرة ومتقطعة.

كان ولا يزال في تاريخ البرلمانات العربية من يرفض ويعارض ويشاكس على أداء الحكومات وإن تفاوتت مستويات وهوامش الحرية من بلد إلى آخر، ولكن الأمل قائم في التطلع إلى تمثيليات شعبية مسؤولة، نزيهة وشفافة، خصوصا مع متغيرات إقليمية ودولية كثيرة تجعل من حرية الرأي حلاّ لا مناص منه في مواجهة مشاكل وتحديات كثيرة تأتي على رأسها موجات التطرف والإرهاب.

ليس هناك أسهل من حالات السخرية والتمييع والاستهتار التي تنتجها العقليات الهدامة في العالم العربي، وتبث شعورا عاما بالإحباط والسلبية لا يستفيد منه إلا أعداء الحرية والتقدم، إذ غالبا ما تستفيد القوى الرجعية والظلامية من هذا الانطباع السلبي الذي يكرس مقولة أن العرب غير جديرين بحياة برلمانية صحية على غرار الأمم المتقدمة.

السؤال البديهي الذي يمكن أن يوجه للمنتقدين للمشهد البرلماني العربي، وخصوصا لأولئك القائلين باستحالة وجود حياة برلمانية حقيقية، هو: هل البديل في نظركم هو إغلاق البرلمانات وتحويلها إلى فضاءات تجارية أو صالات أفراح أو حتى تعاز؟

إن السلوكيات الشاذة والممارسات الفاسدة موجودة في أعتى وأعرق الديمقراطيات الغربية، فما بالك في تجارب ما زالت تتلمس طريقها وسط عوائق لا تحصى ولا تعد، منها الذاتي ومنها الموضوعي ومنها بسبب مؤامرات خارجية، من مصالحها أن تضع العصي في عجلات القاطرة الإصلاحية والديمقراطية في العالم العربي.

العالم العربي عموما، ليس حديث العهد بالحياة البرلمانية على مختلف صيغها وتسمياتها، وبإمكانه أن يعيد إحياء الفترات الذهبية لهذه المؤسسات التشريعية بعيدا عن ذهنية الاستسلام والإحباط. يتناسى الناظرون إلى النصف الفارغ من الكأس أن البرلمان المصري مثلا، ورغم انتكاساته وكبواته، عمره يزيد عن 150 عاما (تأسس سنة 1866) وساهم في صنع أحداث أثرت في المنطقة والعالم. كما أن أول برلمان عراقي كان قد تشكل بعد إقامة نظام ملكي دستوري في سنة 1925، ودعا دستور سنة 1925 إلى برلمان من مجلسين هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ.

الجمود أو القصور في الحياة البرلمانية العربية، لا تتحمل حكومات ودول الاستقلال مسؤوليته وحدها، بل تلك السنوات العجاف بل العقود من الاستعمار والحكم العثماني الجائر، وفي هذا الصدد يذكر كاتب عراقي طرفة مفادها أن الرئيس نوري السعيد، في منتصف القرن الماضي قد أجاب أحد النواب المحتجين بقوله: سيدي المحترم، نحن لم نتسلم العراق من يد هارون الرشيد لتحاسبنا. تسلمناه من الوالي العثماني. وضجّ المجلس بالضحك.

ومن جهة أخرى، لا يمكن إنكار فاعلية الجهود التي تقوم بها المؤسسات البرلمانية العربية حتى على مستوى الدبلوماسية الدولية، فمنذ أسابيع، وبعد القرار الأميركي بنقل السفارة إلى القدس، أعلن رؤساء البرلمانات العربية عن سحب الرعاية من الولايات المتحدة الأميركية كدولة راعية للسلام، وذلك لخروجها الصريح عن الشرعية والقانون الدوليين، واختيارها الواضح أن تكون طرفا خصما لا حكما كما كان ينبغي أن يكون عليه الأمر.

انعكاس الأزمة في المجتمع والدولة

قال أحد الظرفاء العرب معرّفا كلمة “نائب” بأنه “مذكّر نائبة”، والنائبة في لغة العرب هي الكارثة أو المصيبة بطبيعة الحال.

ولكي لا نظلم النزيهين والشرفاء، فإن غالبية النواب في البرلمانات العربية، يمثّلون مادّة خصبة لاستنباط واستلهام شتى أنواع الدراما بكل أصنافها، من الفانتازيا التاريخية والمعاصرة إلى التراجيديا والكوميديا المسلية والسوداء على حدّ سواء.

هذا المشهد البائس والمثير للسخرية حينا والاشمئزاز أحيانا أخرى، ليس مرده هؤلاء النواب أنفسهم بل الآليات والملابسات التي أوصلتهم إلى مقاعد الاسترخاء تحت القباب في تلك المباني الضخمة التي تحيطها الدولة بحراسة مشددة، ونطلق عليها “برلمانات” أو ما شابه من تسميات.

نواب المجالس الشعبية في العالم العربي لا يختلفون كثيرا عن بعضهم طالما أن مجتمعاتنا ودولنا متشابهة إلا بمقدار ما توفره الإرادات السياسية الساعية نحو التطور والانفتاح، لذلك يسهل تصنيفهم ضمن زمر واضحة ومحددة الملامح. فهم إما جماعة وقع فرضها فرضا من طرف القيادات السياسية العليا، وإما من الأسماء التقليدية المتكررة في كل دورة انتخابية داخل المدن والأرياف وإما ما يمكن تسميتهم بجماعة الإقطاع السياسي. وثمة بالطبع، جماعة النفوذ والمال السياسي بصورته المعهودة، بالإضافة إلى حالات منفردة التي قد تتميز بإراداتها الحرة والمستقلة ثم سرعان ما تفقد حماسها ويخبو بريقها.

هذا إذا لم تتموقع داخل أي كتلة من هذه الكتل التي تبدو في ظاهرها برلمانية ذات خلفية حزبية، لكنها وفي حقيقتها لا تنفلت من التصنيف سالف الذكر.

ثمة نواب يحضرون لمجرد عدم التغيب وربما خشية أن لا يقتطع من رواتبهم كما هو الحال في برلمان تونس وما أثاره قرار الاقتطاع الذي احتج عليه أغلب الأعضاء بشدة، وجاءت “على عكس الجلسات التي تناقش قضايا وطنية تخص الشعب”.

وثمة نواب يحضرون للاستعراض وتسجيل النقاط ضد خصومهم من الكتل البرلمانية الأخرى، ولغايات فئوية ضيقة ومحسوبة تبتعد عن حس المسؤولية الحقيقية، وهم ما يمكن أن نطلق على نشاطهم تسمية “السياحة الحزبية”.

وثمة نواب تطلق عليهم صفة “النواب الأشباح” نظرا لقلة حضورهم ونشاطهم وتدخـلاتهم داخل مجلس الشعب وخارجه، وفي هذا الصدد قالت النائب التونسية سامية عبّو “لم أشاهد عددا من الزملاء النواب طيلة سنة كاملة وهناك نواب رأيتهم بعد أربع سنوات في المجلس”.

ظاهرة العراك بين النواب، والتي لا يكاد يخلو أي مجلس نيابي في العالم منها، وخاصة بين نواب الحزب الحاكم والمعارضة عادة، والذي قد يتطور إلى حد التشابك بالأيدي والتلاسن، وهو عراك له خلفية تنافسية لخدمة الصالح العام يتأثر باختلاف البرامج والتصورات المختلفة في البلدان المتقدمة.

أما في غالبية البرلمانات العربية فالعراك، إن حصل، فيقوم حول خصومات شخصية أو حسابات حزبية أو فئوية ضيقة أو مسألة لها علاقة بحملة انتخابية سابقة لأوانها وكانت لمعظم هذه المشادات التي نقلتها وسائل الإعلام في بلدان لها هوامش من الحريات، تداعيات سلبية على عمل مجالس نواب الشعب ومثّلت عاملا معرقلا لمهام النواب، فضلا عن التسبب في فقدان ثقة المواطن في أغلب من يعتقد بأنهم يمثلونه.

فارق رقيق وحساس بين الانفعالات التلقائية التي تمليها حالتا التحمس والذود عن الفكرة حسب ما تمليه المسؤولية النيابية، وبين مظاهر التهريج والعجرفة والخروج عن الأخلاق العـامة في بعـض البـرلمـانات العربية، خصوصا في بلدان عرفت انفـلاتا عاما كبعض بلدان ما بات يعرف بالربيع العربي.

وفي هذا الصدد لا تكاد بلاد عربية يخلو برلمانها أو مجلسها التمثيلي من وجوه أقل ما توصف به أنها تهريجية وكأنها تؤدي دورا في مسرحية من النوع الكوميدي الرخيص والممجوج. فإلى متى تستمر هذه المهازل؟ وما الطرق الناجعة لمعالجتها؟

لا شك أن المسألة أعقد من ذلك بكثير، وتتعلق بأزمة هيكلية بنيوية في الفرد والمجتمع والدولة، ذلك أن القاعدة تقـول “كيفما كنتم يولى عليكم”، والمنطق يفسر الحالة على خلفية أن هؤلاء النواب من هذا الشعب، وذهنية هذا الشعب هي صنيعة خيارات وقـرارات متأتية من الطبقة السياسية.

الحلول ممكنة ولو كانت جزئية وذات صفة ترقيعية، فمجلس النواب هو بمقتضى الدستور، أساس الدولة وعلاقاتها الداخلية والخارجية، ويجب على أعضائه تحمل مسؤولية اقتراحاتهم، وعليه فإن الكشف الطبي من الناحيتين النفسية والعقلية ليس عيبا، بل هو أمر مهم وضروري ويوجد في جميع برلمانات ومؤسسات الدول المتقدمة.

شاهد أيضاً

أردوغان الرّابح الأكبر من صراع الناتو وروسيا | فاضل المناصفة

تحاليل _ تحاليل سياسية _ أردوغان الرّابح الأكبر من صراع الناتو وروسيا | فاضل المناصفة* …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.