الرئيسية | تحاليل سياسية | تونس بحاجة إلى نخبة غير مُلوَّثة. |بقلم: رشيد خشانة.

تونس بحاجة إلى نخبة غير مُلوَّثة. |بقلم: رشيد خشانة.

تحاليل _ تحاليل سياسية _ تونس بحاجة إلى نخبة غير مُلوَّثة. |بقلم: رشيد خشانة*.

مع التدهور الذي جرف كثيرا من المُكتسبات المجتمعية في تونس خلال السنوات الأخيرة، نلحظ تدهورا مطّردا في الأخلاق العامة. هذا التدهور لم يقتصر على فئات واسعة نسبيا من المواطنين، مثلما نلحظه في الأسواق والشوارع والملاعب، بل أخذ يكتسح أيضا المجالين السياسي والإعلامي وسط لا مبالاة عامة. واللامبالاة تؤدي بدورها إلى التعوُد والتكيُف، فيصبح الخارق مألوفا والمرفوض مقبولا.
من الشائع اليوم أن الذين يغضبون أو ينهرون أو ينتقدون، لم يعودوا يزنون تصرفاتهم وعباراتهم بمثقال يجعلها متناسبة مع حجم الأفعال التي يُؤاخذون الآخرين عليها. ففي الشارع انهارت الأخلاق بشكل غير مسبوق، وصار السواق يُرغدون ويُزبدون لأبسط مضايقة من سائق آخر أو من مُترجل، أو حتى لمجرد أن الشخص الآخر توقف احتراما للإشارة الحمراء. ومن الشائع أيضا أن ترى شخصين يتراشقان بعبارات نابية في الطريق العام، وبأعلى صوتيهما، لموضوع تافه. هذا إذا لم ينزلا من سيارتيهما ويشتبكا على نحو يشلُ حركة السير.
الأخطر من ذلك أن هذا الانزياح غزا القنوات التلفزيونية، فاختُرقت خطوطٌ كانت تُعتبر حمراء، لكنها اصفرَت خجلا من تدني مستوى «النقاش» (نقاش؟!). وللجمعيات الرياضية، التي تخلت تماما عن دورها التربوي، ضلعٌ كبيرٌ في هذا التدهور العام. مع ذلك سمعتُ قبل أيام وأنا واقف في الطابور سيدة تعتذر لرجل إلى جانبها بكلمة «سامحني»، بعدما لامستهُ الحقيبة التي كانت تتأبطها، فردّ عليها بغاية الأدب «سامحيني أنت». شعرتُ في داخلي براحة افتقدتُها منذ زمن، فالقُماش الأصيل لم ينقطع، والمعدن الذي بات نادرا لا محالة لم ينقرض.
كثيرا ما يُعتبر التحلُل من القيم الاجتماعية والاستخفاف بالأخلاق عنوانا للحرية، لكنه في الحقيقة نقيض لها، فالحرية الحقيقية مثلما يقول الفيلسوف روسو، هي أن تختار ألا تذعن لغرائزك فلا تسكر حتى يُغمى عليك مثلا. هذا في العموم، أما رجل السياسة فهو يجتاز الخط الفاصل بين مجاله الخاص والمجال العمومي الذي يزدحم بالناس، فيُصبح تحت المجهر في حركاته وأقواله، هندامه وسلوكه، كما في أخلاقياته وقناعاته. بهذا المعنى لا ينفصل دور السياسي، وخاصة إذا حمل مواصفات الزعامة، عن دور المُربي. وقد أدرك الزعماء الكبار هذا الأمر فكانوا مُربين كبارا، مما حولهم إلى قُدوة، بل إلى مدرسة. هناك طبعا كثيرٌ من المُنظرين الذين ينزعون عن السياسة أية صبغة أخلاقية، مؤيدين مكيافيل في نهجه المُخاتل المُتلون. غير أن حبل التزييف والبهتان بات قصيرا في عصرنا الراهن، مع تطور التقنيات وتراكم الخبرات، التي مكنت من غزو الحياة الخاصة للسياسيين، والتوصل لمعرفة غالبية الحقائق التي كانت تُحفظ في لفائف الكتمان.
ما عاد ممكنا اليوم لأي رجل دولة في أي بلد من بلاد العالم تقريبا، أن يطمئن إلى أن أسراره محفوظة تماما ولا تطالها أيدي الإعلام أو الشرطة أو القضاء. ولنا في رؤساء مشاهير في العالم أمثال لويس ايناسيو لولا دا سيلفا (البرازيل) وجاكوب زوما (أفريقيا الجنوبية) وكريستينا فرنانديز دي كيرشنر (الأرجنتين) وباك جون هاي (كوريا الجنوبية)، فضلا عن الفرنسي فرانسوا فيون وكثير سواهم، نماذج على أن التذاكي والمُراوغة لا يُجديان نفعا، وذلك بفضل قوة القضاء. ومن هنا فإن السهر على نظافة المؤسسات الثلاث القضاء والشرطة والإعلام، هو الكفيل بحماية المجتمع من المُخادعين المُتحللين من القيم. وكم نحن بحاجة في العالم العربي إلى مؤسسات الرقابة وأجهزة الإنذار المبكر، لقطع الطريق أمام من قوضوا منظومة الأخلاق السياسية والمجتمعية بتهريجهم وصفاقتهم ومعاركهم الدونكيشوتية على أرائك الفضائيات اللاهثة وراء الإعلانات.
إن سيطرة هؤلاء المهرجين على الإعلام سببٌ أساسي من أسباب نزولنا إلى الحضيض الذي أدركنا قاعهُ. تصاعد منطق القاع المجتمعي ومفرداته ومرجعياته وأسلوبه إلى مستوى السطح الإعلامي، فحلَ منطق جديد ودخلت مفردات كانت مخفية وراء الستار، بل ومُحرّمة، فيما اجتاحنا أسلوب العراك وحفلات الشتائم التي صارت تخدش آذاننا وتقتحمُ بيوتنا بلا إذن.
هكذا تحولت الساحة السياسية (واستطرادا الإعلامية) إلى مركاتو حسب الوصف الرشيق الذي اختارته لنا مجلة «لوبوان» الفرنسية.
لذا يمكن تلخيص المشهد الراهن في تونس كالآتي: سياسيون واهمون وإلى جانبهم مُتسلقون صغارٌ يتقاتلون على جلد الثور قبل انتخابات المجالس البلدية. لكنهم يتناسون أن عراكهم السخيف يُنفِرُ المواطن فيزدري المشاركة في أي اقتراع، بل ويكره السياسة ويحتقر المشتغلين بها. هذا الشعور قد يُؤدي إلى تفاقم ظاهرة الامتناع عن التصويت، التي بلغت في الانتخابات التونسية الأخيرة ثلث المُسجلين على القائمات الانتخابية، على الرغم من التعبئة الاستثنائية التي سبقتها، الأمر الذي يُهدد مصداقية النتائج في نهاية المطاف.
السبيل الوحيد لتفادي هذا المنزلق هو التزام السياسيين بالشفافية وترك الألاعيب والتُرهات التي لم تعد تنطلي على أحد، والتجرُدُ فعلا لا قولا لخدمة الصالح العام. وهذا (أي خدمة الصالح العام) عمود أساسي من أعمدة الجمهورية. أما العمود الثاني فهو الفصل بين السلطات وضمان حياد المؤسسة القضائية والعسكرية والأمنية.
ويقتضي هذا الحيادُ الإبقاء على الجيش والشرطة في منأى عن الصراعات السياسية، وذلك بعدم التصويت في العمليات الانتخابية، لأن هاتين المؤسستين هما الضامنتان (مع القضاء) لسلامة الانتخابات ونزاهتها وشفافيتها. وعسى أن يكون تصويت مجلس نواب الشعب التونسي على السماح لأفراد الأمن والشرطة بالاقتراع في الانتخابات البلدية المقبلة، المرة الأولى والأخيرة كي لا يعرف البلد المُنزلقات التي مازال غيرُنا يُعاني من ويلاتها إلى اليوم، بسبب اختراق السياسة للجسمين الأمني والعسكري.
وقبل هذا وذاك تحتاج تونس إلى نخبة جديدة غير مُلوَثة تضع فيها ثقتها وتطمئن إلى صدقها وعزيمتها، فمثل تلك النخبة هي التي ستجعل من السياسة رسالة بدل اتخاذها مهنة للارتزاق والإثراء.

—————————————————————————————————

* كاتب تونسي

شاهد أيضاً

أردوغان الرّابح الأكبر من صراع الناتو وروسيا | فاضل المناصفة

تحاليل _ تحاليل سياسية _ أردوغان الرّابح الأكبر من صراع الناتو وروسيا | فاضل المناصفة* …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.