الرئيسية | تحاليل سياسية | الشعب التونسي يقود ثورة التأميم والحكومة تتلكّأ. |بقلم: سفيان بنحسن.

الشعب التونسي يقود ثورة التأميم والحكومة تتلكّأ. |بقلم: سفيان بنحسن.

تحاليل _ تحاليل سياسية _ الشعب التونسي يقود ثورة التأميم والحكومة تتلكّأ. |بقلم: سفيان بنحسن.

عادة ما تنتهج الدول حديثة الإستقلال السياسي إلى تأميم القطاعات الحيوية للفكاك من الهيمنة الإقتصادية لمستعمر الأمس، وسواء إختارت الأنظمة الجديدة سياسة الخوصصة أو دعم القطاع العمومي فإن إلغاء العقود الإستعمارية شرط لا مناص منه لإرساء قواعد السيادة وسلوك درب التطور والتخلص من ربقة النفوذ الأجنبي، وقد إرتبطت خطوة التأميم بالثورة حتى تلازمتا فباتت الثورات التي لا تكون متبوعة بضم المقدرات إلى الأمة تعتبر في عرف التاريخ والمنطق مبتورة غير قابلة للحياة والإستمرار.

لغويا يشير مصطلح التأميم إلى الأمة بإعتبارها المالك الوحيد لمقدرات البلاد من ثروات ومصانع ضخمة وهو مصطلح معاكس للملكية الفردية مناقض لها، وإن كانت الثورة البولشيفية في بدايات القرن الماضي قد حاربت أساسا الملكية الفردية وسعت لإلغائها فإن المكسيك تعتبر أول دولة كان التأميم فيها موجها أساسا ضد النفوذ الأجنبي في البلاد وليس ضد حقوق الأفراد في التملك، وقد قام الرئيس المكسيكي “لازارو كارديناس″ سنة 1938 بطرد الشركات الأجنبية النفطية وإنشاء شركة وطنية للمحروقات ورغم الصعوبات الآنية التي عانت منها البلاد جراء توقف الإنتاج ومقاطعة أوروبا وأمريكا لمنتوجات المكسيك إلا أن البلاد اليوم تعتبر من أهم مصدري النفط ومن القوى الإقتصادية الصاعدة، وكذلك حذت البرازيل حذو جارتها الجنوبية ورفعت شعار “النفط نفطنا” في خمسينات القرن الماضي لتحتل الشركة الوطنية البرازيلية خامس أكبر شركة طاقة في العالم، ورغم إنفتاح البرازيل مجددا على الإستثمارات الأجنبية في هذا المجال إلا أن القانون يفرض أن تكون الشركة الوطنية “بيتروبراس″ شريكا لكل مستثمر وأن تكون هي المالك للحصة الأكبر.

في منطقة الخليج قاد رئيس الوزراء الإيراني الراحل “محمد مصدق” ثورة تأميم النفط في بلاده في خمسينات القرن الماضي وبعد أن كانت إيران تجني أقل من عشرين بالمائة من عائداتها النفطية ويذهب الباقي إلى الشركات البريطانية أقدم محمد مصدق على إلغاء الإمتيازات المقدمة للشركات الأجنبية وتأسيس شركة وطنية، ورغم الحملة الغربية التي أدت إلى الإطاحة بمصدق والزج به في غياهب السجون إلى أن فارق الحياة إلا أنه يعتبر اليوم باني الإستقلال الإقتصادي لإيران وواضع اللبنة الأولى لمناعتها الإقتصادية وإستقلالها السياسي.

غير بعيد عن إيران كان لنا نحن العرب تجاربنا الرائدة في تأميم الثروة وبعض الشركات الكبرى على الطريقة المكسيكية أي إستعادتها من قبضة الأجنبي من دون الإستهداف المباشر لحقوق الأفراد في التملك، وكان عبد الناصر سباقا في خوض مغامرة التأميم فإتخذ سنة 56 قرار صادما للغرب بضم قناة السويس للأمة بعد رفض البنك الدولي والولايات المتحدة وبريطانيا تمويل مشروع السد العالي، ورغم الجنون الغربي والرد العسكري الصهيوني الفرنسي البريطاني إلا أن مصر تمسكت بإختيارها وتعهدت فقط بتعويض الشركات الأجنبية من دون التنازل عن حقها في الإدارة الكاملة للشركة، ومما زاد في فورة جنون الغرب هو فشل الرهان على عدم القدرة المصرية على تشغيل القناة بعد أن تمكن المهندس المصري محمود يونس ورفاقه من تأمين عملها بنفس المردودية السابقة.

بعد التجربة المصرية الرائدة صدر في جمهورية العراق الوليدة آنذاك قانون 80 لسنة 1961 والقاضي بتحديد صلاحيات الشركات الأجنبية وهو ما مثل الخطوة الأساسية الأولى لتأميم النفط العراقي في سبعينات القرن الماضي ليكون هذا الإنجاز في واقع الأمر مشتركا بين الغريمين السياسيين الشيوعي عبدالكريم قاسم والقومي البعثي أحمد حسن البكر ونائبه القوي صدام حسين، ورغم التباين بين توجهات المعسكرين إلا أنهما تكاملا في إتمام مشروع إستعادة ثروات البلاد ومحاربة الإستعمار الإقتصادي الذي مارسته بريطانيا بعد هزيمتها العسكرية على الأرض، وكانت قبل قانون 61 أكثر من 95 بالمائة من أراضي العراق هي أراضي إمتياز للشركات الأجنبية مما يعني أن شعب العراق لم يكن يحتكم على قطرة واحدة من نفط بلاده، وساهمت هذه الخطوة العملاقة في وضع اللبنة الأولى لإنشاء واحدة من أقوى الدول في المنطقة قبل أن يتكالب عليها القريب والغريب، ورغم أن النفط مثل في ما بعد أحد أهم أسباب إحتلال العراق وتدميره إلا أن معركة الشعب مع لصوص الليل وزناته لم تنته بعد ولا نظنها تؤول لغيره في نهاية المطاف.

على خطى العراق سارت الجزائر في مفاوضات شاقة سنة 67 من أجل إسترجاع ثروات البلاد إلى أن صدر قانون 11 أفريل 1971 الذي حدد أنشطة الشركات الأجنبية مما ساهم في إرساء أسس النهضة الصناعية التي عرفتها الجزائر في السنوات اللاحقة قبل أن تغرق في الفوضى والحرب الأهلية التي أوقفت قطار النمو المنطلق بسرعته القصوى نحو الدول المتقدمة.

الجار الجنوبي الشرقي للجزائر أي الجمهورية العربية الليبية كانت له تجربته الفريدة في إستعادة ثرواته المنهوبة من قبل العالم المتحضر، فبعد ثورة الفاتح من سبتمبر دخلت البلاد معركة إستعادة الصناعات النفطية لتعلن سنة 1973 التأميم الكامل، ولتدخل بذلك عصر المواجهة المستمرة مع الدول الإستعمارية والتي إنتهت بإستشهاد البدوي الثائر معمر القذافي بعد عقود أربعة من الصراع مع الإمبريالية وأذنابها من العرب ولتعود بلاده مجددا إلى الإستعمار المباشر.

دول الخليج أو الإمارات والمملكات لم تعرف ثورة حقيقية في تاريخها الحديث وإعتمدت في الصناعات النفطية على الشركات متعددة الجنسيات، ونضرب هنا مثلا شركة أرامكو السعودية العملاقة  التي لعب المستشرق البريطاني جون فيليبي دورا فعالا في تأسيسها بعد أن وضع اللبنة الأولى لقيام الملكة العربية السعودية، ويعتقد الكثيرون أن تأميم الشركة سنة 1988 كان فقط للإستهلاك الداخلي ولم يؤثر على حصص المستثمرين الأجانب ومن نتائج هذا التأميم الصوري أن تولى للمرة الأولى في تاريخ الشركة سعودي مهمة رئاستها التنفيذية، والغريب أن أرامكو لم تدرج مطلقا ضمن بنود ميزانية الدولة السعودية بعكس بقية الشركات الحكومية وهذا يعني أن لها وضعا قانونيا مبهما وأن تأميمها جاء لإمتصاص غضب العمال ولمسايرة موجة التأميم التي إجتاحت الوطن العربي ومع الحديث عن طرح أسهم الشركة للبيع تتخلى المملكة نهائيا عن أكبر الشركات لصالح الشريك الأمريكي المتخفي. وإجمالا لا يمكننا الحديث عن عمليات تأميم حصلت في ممالك الخليج حتى الآن.

في تونس عرفت البلاد في ستينات القرن الماضي تجربة إشتراكية مستلهمة من الدول الأسكندينافية قادها النقابي أحمد بن صالح وكان من ثمارها تشييد عدد كبير من السدود المائية وتعميم التعليم والصحة في كامل ربوع البلاد لكنها إصطدمت بالطبقة الثرية التي رأت في التجربة خطرا محدقا بإمتيازاتها كما أثارت سخط فرنسا التي لم تنظر بعين الرضى لعملية تأميم أملاك المعمرين الفرنسيين وإتهمت تونس بالوقوف خلف المعسكر الشيوعي مما أدّى إلى إجهاض التجربة قبل بلوغها مرحلة تأميم ثروات البلاد كالنفط والملح. وبعد ثورة 2011 عاد الحلم من جديد ليساور أبناء الخضراء في نيل الإستقلال الإقتصادي وإلغاء العقود الإستعمارية وتأميم الملح والنفط وكلاهما يمثل ثروة طبيعية منهوبة منذ سنوات الإستعمار إلى اليوم، وتزداد الإحتجاجات الشعبية في مناطق الجنوب التونسي لتطالب في البدء بالتنمية والتشغيل ثم لتضع يدها على الجرح وتطالب بالتأميم، ونعتقد أن الزيارات الأخيرة لوفود الحكومة إلى المنطقة يهدف بالأساس إلى الإلتفاف على هذا المطلب من خلال طرح مشاريع صغرى في المنطقة لكسب رضى الشباب الثائر، والثابت اليوم أن الحكومة العازمة على عدم إثارة الغضب الفرنسي والدولي بإتخاذ قرار التأميم تجد نفسها أمام خطر تمدّد الإحتجاجات إلى المدن الكبرى، ويقينا يدرك المسؤولون في البلاد أنّ الشباب الذي أزاح نظام ما قبل الثورة قادر على طرد الشركات الأجنبية وتمزيق إتفاقيات الذلّ، ونعتقد أن أمام الحكام طريق واحد ليسلكوه وهو إعلان التأميم وإلغاء كل العقود الإستعمارية والسّير خلف الشعب الثائر وإلّا فسيكونون والشركات الأجنبية هدف الحراك القادم.

التأميم مصطلح عظيم، أعظم مما ذهب إليه أهل السياسة على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم، التأميم أن يكون كل ما في الأرض وعليها للأمة، أن يكون نفط العراق لأهل موريطانيا وأن يكون غاز قطر لأهل اليمن، وأن لا تكون مقدرات الأرض فقط لهذا الشعب العربي بل للأجيال القادمة التي ستحاسبنا على إهدارنا للثروة وعلى عدم توفير أسباب النجاح لها، إن التأميم في مفهومه الأرقى والأجمل أن تكون الثروة عابرة للحدود وللزمن وهو هدف يستحقّ خوض مئات الحروب من أجله وتقديم القرابين من طرابلس إلى بغداد.

شاهد أيضاً

أردوغان الرّابح الأكبر من صراع الناتو وروسيا | فاضل المناصفة

تحاليل _ تحاليل سياسية _ أردوغان الرّابح الأكبر من صراع الناتو وروسيا | فاضل المناصفة* …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.