الرئيسية | تحاليل تربوية | القطاع العام والرهان الصّعب: أزمة التعليم الحكومي في تونس نحو مراجعات وإصلاحات كبرى.

القطاع العام والرهان الصّعب: أزمة التعليم الحكومي في تونس نحو مراجعات وإصلاحات كبرى.

تحاليل _ تحاليل تربوية _ القطاع العام والرهان الصّعب: أزمة التعليم الحكومي في تونس نحو مراجعات وإصلاحات كبرى.

عاش قطاع التعليم الحكومي في تونس خلال الأسابيع الأخيرة على وقع المعركة المفتوحة بين نقابات التعليم الثانوي في الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة والتي وصلت إلى أقصى درجاتها مع الاضراب المفتوح الذي خاضه الأساتذة والمعلمون في مختلف معاهد ولايات الجمهورية التونسية مما أثار الهواجس والمخاوف حول مستقبل 900 ألف تلميذ وطالب في القطاع التعليمي العام. وفي الحقيقة فان هذه الأزمة ليست جديدة، فأولى الاحتجاجات على ظروف التعليم الحكومي خاضها الأساتذة سنة 2013 وكانت مطالبهم تحوم في الأساس حول ادخال عدد من الإصلاحات التعليمية وكذلك تحسين وضعية الأساتذة في ظل تدهور الوضع المعيشي.
وفي الحقيقة فان الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الراهنة التي تعيشها البلاد في ظل مسيرة الانتقال الديمقراطي الصعب زادت من وتيرة الاحتجاجات في مختلف القطاعات تقريبا، في الاقتصاد والصحة وأخيرا التعليم. ولئن كانت المطالب التي رفعها ممثلو الاتحاد العام التونسي للشغل في مختلف هذه القطاعات مشروعة، إلا ان الجدل اثير حول توقيتها ومدى ملاءمتها للظرف الراهن.
فما حصل في قطاع التعليم العمومي في الأساس -اعتبره البعض -تهديدا للمدرسة الوطنية التي بناها قادة الاستقلال في الدولة الحديثة. حيث لم يكن التعليم في تونس متاحا للعموم قبل عام 1958 وكان يتمتع به فقط 14 في المئة من المواطنين. ولكن الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال بذلت جهودا كبيرة لتحسين القطاع التعليمي وصرفت عليه زهاء 6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، خاصة بعد ان أصبح التعليم إجباريا في المدارس منذ عام 1991.

معركة قديمة جديدة

عادل الحاج سالم الكاتب الصحافي وأستاذ التعليم الثانوي قال لـ «القدس العربي» إنّ أزمة التعليم في تونس هي قديمة، مشيرا إلى أنّ نظام بن علي أدرك خطورة تداعياتها وعمل بالتالي على تلافيها قدر الإمكان أو تأجيلها، وأفلح مرّة عندما أقنع المناضل الحقوقي الفقيد محمّد الشرفي بتولّي حقيبة التربية والتعليم العالي في نهاية التسعينيات مشيرا إلى أنّ هذه الخطوة كانت سببا في حملة ومعارضة قوية من قبل الإسلاميين نظرا لجرأة الإصلاحات التي أدخلها على التعليم العمومي وقتها، وللطابع السياسي الذي أخذته تلك الإصلاحات خاصّة في ما سمّي وقتها «سياسة تجفيف المنابع» وتجلّت في تخليص المناهج الدراسية من أغلب ما اعتبر حثّا على العنف بمختلف تجلياته وتمظهراته، بدءا من العنف الأسري وصولا إلى العنف السياسي الذي يتخذ لبوسا دينيا. ويضيف عادل الحاج سالم قائلا: «لكنّ أهمّ ما باشره محمد الشرفي في عملية الإصلاح هو الاهتمام بالفضاء المدرسي الذي تم تحويله إلى فضاء مدنيّ تشغله نوادٍ من أهمّ أدوارها تفعيل الحوار داخل الأسرة التربوية وبين التلاميذ والمدرّسين. لكنّ وزراء بن علي الذين لم يأتوا من المجتمع المدني ولا خلفية حقوقية لهم (خاصّة الصادق القربي وحاتم بن سالم) لم يبنوا على منجز المرحوم محمد الشرفي، وكانت الأنشطة الثقافية والبيئية والاجتماعية أوّل ما نسفوه في المدرسة التي ورثوا الإشراف عليها».

مراجعات كبرى

ورأى سالم أنّ أزمة التعليم لا تقف عند حدّ البرامج وحاجتها إلى التحسين والتطعيم والمراجعة، فقد ظهرت أجيال جديدة من التلاميذ لهم عقليات وحاجيات ومتطلبات لم تكن موجودة من قبل، بما يفترض التخلّي عن بعض المقررات والبرامج وإدماج بعضها الآخر. وفيما يتعلق بسؤالنا عن التنافس مع القطاع الخاص أجاب: «صحيح أنّ التنافس لم يكن مطروحا في ما مضى مع التعليم الخاص مثلما هو مطروح اليوم، وكلفة التعليم العمومي في تزايد بما يرهق الدولة ويجعلها بين مطرقة الكلفة العالية وسندان عجزها عن ضمان تعليم عموميّ مجاني وقادر على المنافسة، فمباني المدرسة العمومية تبقى رغم كل الصيانة والترميم في حالة متداعية للسقوط في أغلبها والتعليم بقي مجانيا رغم ازدياد الكلفة ورغم تأثير ذلك السلبي على الميزانية العمومية، لكن هجرة التلاميذ لاستكمال دراستهم العليا في الخارج في ازدياد مستمرّ، وتراجع مستوى التعليم صار ظاهرة جليّة. فالفرنسية تبقى مادّة أساسية وإجبارية في مختلف مراحل التعليم رغم تراجعها حتى في فرنسا، والتلاميذ غير قادرين على إتقانها وهذا يظهر ويتجلى في الأساس كل سنة في إعلانات وزارة التربية عن آلاف الأصفار التي أسندت في هذه المادّة في امتحانات الباكالوريا».
ويؤكد انه، في هذه السنة الإدارية 2017- 2018 تحديدا، ومع لجوء الحكومة إلى إعادة حاتم بن سالم (آخر وزراء بن علي للتربية إلى الوزارة نفسها) وهذا التعيين أعاد إلى ذاكرة المدرّسين «معركتهم» في 2010 مع الوزير نفسه عندما أبدى حرصا على مراجعة نظام التقاعد الذي يحظى به المدرّسون على غرار الموظفين الحكوميين ابتداء من سنّ الستين، وأبدى استعدادا للترفيع فيه إلى الـ65 وهو ما لم يجد الوقت لتنفيذه. لقد كان أهمّ إضراب حصل قبل الثورة هو إضراب المدرسين يوم 26 أكتوبر 2010 تحت شعار «لا تلمسوا تقاعدنا». واليوم يعود الوزير نفسه، وبالشعار نفسه، مع تدهور القدرة الشرائية لدى المدرّسين الذين اعتبروا الأمر عملا ممنهجا لتفقيرهم ومعاقبتهم، وإضعاف اتحاد الشغل».

صندوق النقد وخطر الخوصصة

وعن سؤال هل أنّ ما يحصل له علاقة بإملاءات وشروط صندوق النقد الدولي يجيب سالم: «يعتبر المدرّسون أنّ الحكومة تنفّذ برنامجا لصندوق النقد الدولي يستهدف الدفاعات الاجتماعية في وجه الخصخصة، فلا يخفى أنّ اتحاد الشغل القويّ بتماسكه وتماسك نقاباته العامّة الـ50 كان هو من تصدّى لسياسات الصندوق في عهد حكومات الترويكا الثلاث، ثمّ جاءت مبادرته بالحوار الوطني الذي انتهى إلى اقرار انتخابات 2014 والنهاية غير السعيدة لحكم الإسلاميين في تونس». ورأى أنّ معركة كسر العظام يبدو ظاهريا أنّ الاتحاد يقودها عقابا للحكومة وتعبيرا عن الندم على إسنادها، لكننا نلاحظ أنّ الاتحاد منذ شهور وقبل البدء بالضغط وعدم إعادة الأعداد قام بإضرابات متعددة وتجمعات خارج أوقات التدريس أمام وزارة التربية وفروعها في المناطق، وطالب في كل مرة بالتفاوض لكن الحكومة رفضت في كل مرة الفكرة، وكانت تصريحات الوزير وأعضاء الحكومة تسعى إلى تأليب أولياء التلاميذ على مدرّسيهم بما عمّق الشرخ بينها وبين النقابة وجعل النقابة تعتبر أن الوزير يستعمل الإعلام بكيفية شعبوية فيها استهداف للمدرسة العمومية واستكانة لمطالب صندوق النقد الدولي مضحّية بالمدرسة العمومية تضحية لن تفيد إلا الرأسمال المتربّص بما هو عموميّ لتوظيفه في سياسات ربحية لن يغنم منها التلميذ ولا عائلته شيئا مذكورا بما يثقل كاهل الأسرة التونسية ويحملها أعباء إضافية وهي التي لم يترك لها غلاء الأسعار وتدني القدرة الشرائية ما تكفل به دراسة أبنائها ولو في التعليم العمومي».
وأكد أنه بالرغم من أنّ هناك بوادر انفراجة في الأزمة مع اجتماع الهيئة الإدارية لقطاع التعليم الثانوي وانطلاق المفاوضات مع الحكومة إلا أن التحديات عديدة أمام قطاع التعليم الحكومي من أجل كسب الرهان ليظل منافسا وقويا وقادرا على تخريج أجيال قادرة على حمل المسؤولية والنهوض بوضع البلاد.

أزمة تتفاقم

وأكد الأكاديمي والباحث التونسي سهيل الشملي أنّ التعليم قطاع حيويّ في تونس راهنت عليه دولة الاستقلال ليكون رأسمال بلد ليست له ثروات كثيرة. مشيرا إلى أنّ هذا القطاع شهد تهميشا مدة عقود ولم يتم إصلاحه جذريا ما جعل أزمته تتفاقم يوما بعد يوم.
وقال أنّ إصلاح قطاع التعليم يحتاج فتح حزمة من الملفات من أهمها: البنية الأساسية، الاكتظاظ، البرامج، المناهج والوضعية المادية لإطار التدريس، ولكن في ظل هذه العولمة المتوحشة وغلبة منطق اقتصاد السوق وضعف موارد الدولة التي تعرف فشلا حيث ينبغي البحث عنها، يشعر رجال التعليم أن المدرسة العمومية مهدّدة وأن النية متجهة نحو تفليسها للتخلص منها أو من جزء كبير منها للقطاع الخاص وهم يرون أن قطاعات أخرى يجد فيها العاملون امتيازات تفوق بكثير ما يصرف لهم من رواتب. ويضيف: «ثمة شعور بالحيف والظلم ثم إن الاتفاقيات التي تبرم مع الطرف الحكومي يتم التراجع عنها أو تسويفها وفي كل مرة يكون رجال التعليم رهائن لعددهم الذي يقارب 100 ألف وتحت ضغط الأسر التي توظف سياسيا من الدولة والإعلام للضغط على رجال التعليم وشيطنتهم». وأضاف: «الكثير من التونسيين لا يدركون خطر ضرب التعليم العمومي الذي بنيت بفضله الدولة ومكّن الكثيرين من الارتقاء في السلّم الاجتماعي. وهم لا يتصوّرون ما سيدفعونه في مستقبل الأيّام من أجل تعليم أبنائهم». أما عن الحلول الممكنة وعن أفق هذه الأزمة، فقد لفت محدثنا إلى أن لا حلّ إلا بفتح الملفات الحقيقية وليس الجانب المادي إلا أحدها لأنها مترابطة. ويضيف: «فتحسين وضع التعليم في مختلف المستويات قد يجعل المطالب المادية أقلها قيمة، فالأستاذ متى عمل في ظروف لائقة وببرامج قابلة للتحقيق ومواكبة لمشاغل اليوم، ومتى تابع تأهيلا يجعله مواكبا لآخر المستجدات المعرفية والتعليمية، ومتى استردّت المدرسة هيبتها ودورها التعليمي والتربوي أيضا، آنذاك يمكن أن نضع التعليم في تونس على الطريق الصحيح. فالقرار سياسي بامتياز وبه يكون التعليم العمومي رهانا حقيقيا أما إذا ظللنا نحتسب المسألة بالفلس والمليم فقولوا وداعا لرأسمال هذا الوطن».

شيطنة ممنهجة

ويرى سمير بن أحمد أستاذ التعليم الثانوي أن ما يحصل في تونس منذ 14جانفي 2011 هو عمليات شيطنة ممنهجة لنخب البلاد لا يعرف إلى الآن من يقف وراءها. ففي وقت سابق تمت شيطنة المحامين والأطبّاء والقضاة والأمنيين، واليوم تطال الشيطنة رجال التعليم والمربّين ولا يبدو أنّ أحدا سيسلم من هذه العملية المريبة والمثيرة للشكّ.
ويضيف محدثنا قائلا: «هل بات عيبا أن يطالب قطاع ما بتحسين وضعه المعيشي في ظل ارتفاع الأسعار في تونس إلى حد لا يطاق ومع حكومات عاجزة عن إيجاد موارد خارج إطار الجباية؟ لماذا من حق الدولة أن ترفع سعر البترول وتزيد من اقتطاعها من رواتب الموظفين وترفع من جباية القطاع الخاص ولا يحقّ لنا أن نطالب بالزيادات صونا لكرامتنا وكرامة أبنائنا؟
نعم للتضحية من أجل تونس لكن وجب أن تكون التضحية جماعية، أي أن يضحي الرئيس ورئيس الحكومة والوزراء وغيرهم من كبار موظفي الدولة لا رجال التعليم ومنتمون إلى قطاعات أخرى دون سواهم. سنضحي جميعا لو توفرت رغبة جدّية لدى رئيس الحكومة لمحاربة الفساد وهو الذي يحيط نفسه بوزراء ومستشارين عليهم أكثر من نقطة استفهام وبعضهم متورّط في هذه الحملة التي تشنّ على رجال التعليم مثلما تورّط قبل سنة أو سنتين في عملية شيطنة المحامين».
أما عن قصّة حجب نتائج التلاميذ الذي كثر حوله الحديث فيؤك”د على أن الأساتذة لم يحجبوا النتائج على الأولياء والتلاميذ وإنّما على الإدارة وهناك فرق شاسع بين الحالتين. ورغم ذلك، وحسب محدثنا فقد أصر بعض الإعلاميين والقطاع الإعلامي منهم بريء، وخدمة لبعض الأجندات على إيهام الرأي العام الوطني أن الأساتذة قد حرموا التلاميذ من نتائجهم وهو ما يتنافى مع حقوق الطفل وهذا بالطبع يدخل في إطار عملية الشيطنة».

____________________________________________________________

*روعة قاسم.

شاهد أيضاً

من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري

تحاليل _ تحاليل سياسية _ من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري* تكتمل الخميس المقبل أربعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.