الرئيسية | تحاليل فنية | “بنزيـن”… فيلم يغوص في الجنوب التونسي وقضايا الهجرة السرّية.

“بنزيـن”… فيلم يغوص في الجنوب التونسي وقضايا الهجرة السرّية.

تحاليل _ تحاليل فنية _ “بنزيـن”… فيلم يغوص في الجنوب التونسي وقضايا الهجرة السرّية.

السينما هي أكثر الفنون قدرة على معالجة الواقع بكل قضاياه الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية وغيرها. ولعل أكثر القضايا التي باتت تؤرق بلدان الضفة الجنوبية من البحر المتوسط قضية الهجرة السرية في قوارب الموت، وما يتعلق بها من ألم الفقد والمشاكل التي تدفع بالشباب إلى الهجرة القاتلة نحو المجهول هربا من شبح الفقر. هذه القضايا وغيرها يعالجها الفيلم التونسي “بنزين”.

العائلة التي تخسر ابنها في ظروف الهجرة غير الشرعية، كيف تستطيع احتمال الحياة ومواجهة مصاعبها بالشكل الاعتيادي الطبيعي؟ والحالة النفسية اللاحقة لما قد تخلفه الخسارة على نفوس الفاقدين، هي جوهر فيلم “بنزين” للمخرجة التونسية سارة العبيدي.

يطرح الفيلم في عرضه الأول في تونس إشكالية الانتظار ما بعد “الحرقة” (الهجرة غير الشرعية) والمغادرة، والأضرار النفسية التي يخلفها البقاء في مرحلة الترقب والتأمل للعوائل الفاقدة تحديدا، وما يحدثه فعل المخاطرة بالهروب بحرا من إرباك على مجرى حياتها الطبيعي. الأبناء يركبون البحر هروبا من تفشي الفقر والبطالة، مخاطرين بأرواحهم، وتقابلهم على خط النار عائلاتهم التونسية التي لا تزال تضيء شمعات من الأمل، في انتظار عودة المفقودين الذين هم في حسبان الدولة أرقام تتراكم مع تتابع الأيام.

يستوحي الفيلم أفكاره من الواقع المهمش المعيش لعائلة تونسية في الجنوب، الحالة الإنسانية التي تسيطر على جوهر النص، وتغلغل المشاعر الحسية هي المحرك الأكبر للأدوار التي يلعبها الأبطال، وتصيغ بشكل غير مباشر محور الأحداث التي تتحرك بشكل بطيء، دون الوصول إلى عقدة تصنع حلا للقضايا التي تظهر للوهلة الأولى على أنها هامشية.

مخرجة الفيلم سارة العبيدي اختارت للفيلم اسم “بنزين”، وهذا العنوان رمزي لو تغلغلنا إلى عمق المشاهد، في كل مشهد كانت هنالك نار تتصاعد في مكنونات الشخصيات، فيهم من ركب الموت للهجرة، وفيهم من هو في انتظار معلومة ما تجيء عن ابن مفقود في هروب غير شرعي إلى أوروبا عبر سواحل البحر الأبيض المتوسط.

تؤكد العبيدي لـ”العرب” أن فيلمها هذا هو الفيلم الأول الطويل بعد عدة أفلام قصيرة، ولديها الرغبة في إخراج الأفلام التي تلامسها وتحدث تساؤلات حياتية مختلفة لديها، وأضافت أن هذا الفيلم لروح زوجها المنتج علي عبدالله، الذي وافته المنية قبل افتتاح العروض السينمائية، وتذكر أن الفيلم قد شارك قبل عرضه في تونس لأول مرة للصحافيين في عدة مهرجانات دولية في الإمارات وبلجيكا.

ما سيظهر للمُشاهد في بداية الفيلم كثرة اللافتات المكتوبة عليها كلمة “بنزين”، وهي نقاط تزويد وقود متنقلة على طول الطريق، سيارات تحمل الوقود المهرب الذي هو في الأساس مصدر دخل للكثير من الجنوبيين. وقد تم تصوير الفيلم في الجنوب، حيث الحياة بسيطة، وتسير في وتيرة بطيئة.

شخصية “سالم” والد الابن المفقود في ظروف هجرة غامضة، قام بأدائها الممثل علي اليحياوي، الذي حرص من خلال دوره على رسم ملامح الاستسلام والتأكيد أن البنزين هو مادة مشتعلة مثلها مثل الصبر الذي يحرص الأب على التشبث به لمواجهة قوة كبرى وهي مشاعر الأم التي تعاني الفقد.

ويقول الفنان علي يحياوي لـ”العرب” إن التنمية شرط أساسي للحد من مشكلة الهروب من الواقع، وهي البديل الأفضل للحد من الحرقة، بدلا من الحديث مطولا عن حلول غير واقعية، وأضاف أن البلاد العربية التي تعاني من الفقر كيف لها أن توقف سلسلة الهجرة؟

على النقيض من تلك الشخصية جاء دور الممثلة سندس بلحسن التي حملت اسم “حليمة” الأم، التي تحاول البحث عن وسائل وطرق توصلها إلى معلومة ما عن ابنها، المرأة الحالمة والمتأملة في القادم، والتي لا تكف عن محاولة خلق حلول وسُبل للعثور على ابنها، فتبدو لنا كتلة من المشاعر المتحركة التي تناقض العقل، الذي يظهر هنا في شخصية الأب، وهو ذاته الذي دفعه إلى التسليم والخواء.

الفنانة سندس بلحسن أوجزت لـ”العرب” في تصريح لها أن الأم هي المتضرر الأول، لأنها تتحكم نفسيا في عائلة كاملة، هي مصدر قوتها وتوازنها، رغم أنها واهية من الداخل خاصة حين يتعلق الأمر بمن حملته تسعة أشهر، وهذا ما لا يعطيه الأبناء قيمة ومكانة لحظة اتخاذهم القرار بالمغادرة.

الفيلم يضع الثورات العربية على المحك، ويجعلنا نتساءل هل أوتيت هذه الثورات أكلها؟ وهل استطاعت أن توازن بين تحولات سياسية وتغييرات اقتصادية تساعد في الحد من هروب الشباب من الواقع المعيش إلى موت محقق عبر البحر؟ كما يطرح بذكاء إشكاليات التنمية وتعزيز وخلق الفرص والتشغيل، هي قضايا لا تظهر للمُشاهد من الوهلة الأولى، لكنها تتسرب إليه حينما ينتهي المشهد الأخير من الفيلم، فهل هناك ما يدفع اللاجئيين في الخارج إلى العودة إلى البلاد في ظل الأزمة الاقتصادية؟

نهاية الفيلم جاءت مفتوحة على التأمل والتأويل، فلا حلول واقعية بشكل حقيقي يمكن الاستفادة منها، والمعاناة لا تزال مستمرة.

ونلفت إلى أنه في إحصائيات صرح بها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مطلع عام 2016 فإن عدد المفقودين في الهجرة غير الشرعية يقارب 504 أشخاص، والرقم أكبر من هذا بكثير إذ هناك العديد من المفقودين ممن لم يُبلّغ ذووهم عنهم السلطات المحلية، أي لم تنته المعضلة بعد لنقفل الباب مثلا على الحديث في مثل هذا الموضوع، لأن الهجرة غير الشرعية هي معضلة دول العالم الثالث، لا تخص تونس وحدها، وهي في تزايد ملحوظ في ظل تدهور منظومة الاقتصاد العربي خلال الأعوام الماضية.

—————————————————————————————————-

* ثورة حوامدة | العرب.

شاهد أيضاً

من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري

تحاليل _ تحاليل سياسية _ من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري* تكتمل الخميس المقبل أربعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.