الرئيسية | تحاليل سياسية | القطاع الصحّي التّونسي مريض ينتظر العلاج.

القطاع الصحّي التّونسي مريض ينتظر العلاج.

تحاليل _ تحاليل سياسية _ القطاع الصحّي التّونسي مريض ينتظر العلاج.

رغم نجاح تونس طيلة عقود في استثمار المليارات من الدولارات لبناء منظومة صحية متطوّرة، كانت كفيلة بتقديم رعاية صحية “مقبولة” للمواطنين والمقيمين والزوار العرب والأجانب، إلّا أنّ الواقع الحالي يؤكّد أنّ تلك الصورة التي طالما تباهت بها الدولة تعاني من أمراض متراكمة.

شيوع فقدان الأدوية من الصيدليات بات يمثّل خللا كبيرا في نظام الرعاية الصحّية وهو يختزل ارتباك إدارة الطبقة السياسية الغارقة في صراعاتها لهذا القطاع ويؤكّد فشل السياسات الحكومية في تطوير قطاع يعاني من فساد ينخر معظم مفاصل الدولة.

على مدى عقود كان الحقّ في الرعاية الصحّية أمرا بديهيا يدعمه الفصل 38 من الدستور، الذي يلزم الدولة بتقديم خدمات صحّية تحترم إنسانية المواطنين مهما كانت أوضاعها الاقتصادية ولذلك فإّن تراجع ذلك الحقّ يفضح حجم الإفلاس السياسي والاقتصادي للحكومة.

وترجع التقارير سبب نقص الأدوية إلى تآكل احتياطات الصيدلية المركزية للدولة نتيجة ارتفاع ديونها للمؤسّسات التي تتعامل معها، بتجاوزها سقف 330 مليون دولار. ويعطي ذلك صورة قاتمة لمستقبل القطاع الذي يعاني من تردّي الخدمات بشكل لم تعهده تونس من قبل.

وفي ظل تضارب مواقف المسؤولين حول هذا الوضع الكارثي وغياب حلول جذرية للمشكلة، تلقى التونسيون صدمة أخرى حين لوّح مزوّدون دوليون بوقف إمدادات أنواع من الأدوية مثل أدوية ضغط الدم والسكّري، إذا لم تسدّد تونس ديونها البالغة 140 مليون دولار.

ورغم تخصيص الدولة سنويا لأكثر من نصف موازنة قطاع الصحّة للأدوية، إلّا أنّ الوضع يواصل التدهور مقارنة بما كان عليه قبل سبع سنوات. فالصيدليات والمستشفيات والمراكز الصحية تعاني من أزمة حقيقية، لا يبدو أنّ الحكومة تضعها ضمن أولوياتها القصوى، وهو ما يفاقم الجدل بشأن معاناة المرضى والمراجعين.

وفي هذه الأثناء تتفاقم الكثير من المشكلات الأخرى في القطاع الصحّي مثل تهالك البنى التحتية وتقادم التجهيزات الطبّية أو عدم وجودها أصلا. وتتزايد علل القطاع مع عزوف الأطبّاء المختصّين عن العمل في المناطق الداخلية للبلاد.

حان الوقت لخفض دور الدولة في تقديم الرعاية الصحية مثلما يحدث في الكثير من دول العالم وأن تسمح للقطاع الخاص بتقديم تلك الخدمات الصحية الحكومية وتكتفي بالمهام التنظيمية

ولم تتمكن حالة التذمر بين المواطنين وانتقادات وسائل الإعلام من تحقيق أي نتيجة تذكر منذ سنوات، ولا تزال الدولة تؤكد أن تطوير الرعاية الصحية من أبرز محاور خططها التنموية التي تحاول تنفيذها، لكن المواطنين لم يلمسوا أي تقدم يذكر.

وتشير دراسات كثيرة إلى أن ديون المستشفيات المتراكمة، التي يبلغ عددها 166، إلى جانب 2100 مركز صحّي وفق بيانات وزارة الصحّة، تجاوزت 207 ملايين دولار. وتؤكد أنها لم تعد تصلح لتقديم الخدمات الطبية وتحتاج لإصلاحات عاجلة.

ويرى متابعون أن القطاع الصحي التونسي من أكثر القطاعات فسادا، وأنه ينافس فساد القطاعات الاقتصادية الأخرى وأنه أصبح بيئة مثالية لاستيلاء لوبيات على أموال الشعب بالتحايل عبر صفقات مشبوهة.

ولعلّ شهادة وزراء الصحّة الذين تقلدوا المنصب مثل الوزيرة السابقة سلوى مرعي أكبر دليل على تفشي ظاهرة الفساد. وسبق لها أن كشفت قبل عامين عما بات يعرف بفضيحة “اللوالب القلبية الاصطناعية” إضافة إلى صفقة توريد مواد مخدّرة للاستخدامات الطبية فاقدة الصلاحية.

ومن المستبعد أن تكون الاتفاقية التي أبرمتها قبل أشهر وزارة الصحة مع الهيئة الوطنية لمحاربة الفساد للحد من إساءة إدارة المؤسسات الصحية في القطاع العام، ذات تأثير نظرا لوجود جهات تسعى لوأدها لأنها تتعارض مع مصالحها.

وينسحب ذلك على الصفقات التي تعلنها وزارة الصحة للحصول على مواد أو معدات وخدمات طبية. وقد أكدت بيانات حديثة لهيئة مكافحة الفساد أن ربع تلك الصفقات تذهب لجيوب الفاسدين.

ولا تكفي إقامة المؤتمرات ورصد الأموال لتطوير القطاع دون اعتماد أسس مدروسة ومحكمة لوضع حد للمشكلة، فالدولة بدءا من أعلى هرم السلطة وصولا إلى وزارة الصحة، جميعهم مسؤولون عما يحدث لأنهم يمتلكون الأدوات الكفيلة بمعالجة الأزمة من جذورها.

هناك إجماع اليوم على أنّ القطاع الصحّي مريض وهو في انتظار العلاج حتى يتعافى ويبدأ في الخروج من دوامة الأزمات المتلاحقة التي تتسبب في خسائر كبيرة للدولة وتكبل مساعي تطوير القطاع الصحي.

ربما حان الوقت لخفض دور الدولة في تقديم الرعاية الصحية مثلما يحدث في الكثير من دول العالم وأن تسمح للقطاع الخاص بتقديم تلك الخدمات الصحية الحكومية وتكتفي بالمهام التنظيمية.

وتشير تجارب الدول الأخرى إلى أن ذلك يمكن أن يخفض فاتورة التكاليف الحكومية ويؤدّي لتحسين الخدمات، إلّا إذا تمكّن الفساد من ملاحقة هذه التجربة أيضا.

———————————————————————————-

*رياض بوعزّة | صحافي تونسي.

شاهد أيضاً

أردوغان الرّابح الأكبر من صراع الناتو وروسيا | فاضل المناصفة

تحاليل _ تحاليل سياسية _ أردوغان الرّابح الأكبر من صراع الناتو وروسيا | فاضل المناصفة* …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.