الرئيسية | تحاليل إجتماعية | ابن خلدون والواقع العربي المعاصر. |بقلم: د. قادة جليد

ابن خلدون والواقع العربي المعاصر. |بقلم: د. قادة جليد

تحاليل _ تحاليل اجتماعية _ ابن خلدون والواقع العربي المعاصر. |بقلم: د. قادة جليد*.

يعتبر ابن خلدون في نظرنا المفكر العربي الوحيد الذي قام بتحليل موضوعي للواقع الحضاري العربي في القرن الرابع عشر وذالك لأنه واجه هذا الواقع الذي عاشه بأسئلة النقد معتمدا إستراتيجية التعرية وتسمية الأشياء بأسمائها، فلم يكن ابن خلدون ليسكت أمام هذا التناقض الذي كان يلوح أمام فكره، فمعالجته لإشكالية عصره هي معالجة صادقة وشهادة حيّة على الارتباط العضوي بين المفكر وبيئته.

إنّ ما يشدّنا إلى ابن خلدون بالفعل هو طبيعة الإشكالية التي فكر فيها والتي مازالت مستمرة فينا بشكل أو بآخر، إشكالية قيام الدولة والأساس الذي تقوم عليه. لقد تساءل ابن خلدون بالفعل: (كيف دخل أهل الدولة من أبوابها؟) وذالك هو محور إشكاليته. فكان جوابه واضحا ومستمدا من تحليل الواقع العيني الذي عاشه، لقد استنتج ابن خلدون أن العصبية هي المحرك الأساسي للتاريخ باعتبار أن الدولة  هي وحدة هذا التاريخ وهذا  هو جوهر نظريته التي استنتجها من خلال تجاربه وتأملاته الخاصة.

إن السؤال الذي فكر فيه ابن خلدون:(كيف دخل أهل الدولة من أبوابها ؟)هو نفسه السؤال الذي يواجهنا اليوم و نخاف من الإجابة عنه، إنّه نفسه السؤال الذي يهدّدنا في الحاضر ويعيق تطوّرنا في المستقبل.

إننا  نتساءل منذ البداية : ما هو الأساس الذي يقوم عليه الملك في البلاد العربية ؟

لا شكّ أنّنا لا نقدّم الجواب الصحيح الذي تتطلبه الجرأة العلمية والجواب الذي يقدمه لنا الواقع الحي ونشعر في قرارة أنفسنا أننا نهرب مما تجب مواجهته و الانطلاق منه، فهل نتحدث عن الواقع الحضاري الذي تعرضه علينا مقدمة ابن خلدون أم عن واقعنا نحن أبناء الوطن العربي في القرن الواحد و العشرين؟ وبعبارة أخرى، ألا نقرأ واقعنا الراهن في الواقع الذي تحدث عنه ابن خلدون؟ ألا نشعر بأن إشكالية ابن خلدون مازالت مستمرة فينا؟ وأخيرا وليس آخرا أليست العصبية اليوم هي المحرك الفعلي والخفي لكل نظام سياسي يقوم في الوطن العربي؟.

في الواقع أنه رغم المسافة الزمنية الطويلة التي تفصلنا عن عصر ابن خلدون إلا أننا نشعر أنه أكثر معاصرة لنا من أنفسنا، وأنه عندما نتصفح المقدمة نشعر أنها تتحدث إلينا وتكشف في العلن ما نحاول إخفاءه في السرّ ونشعر أننا فعلا نقرأ ما لم نكتبه بعد ونسمع ما لم نقله بعد، إنها تكشف عقدنا الحضارية بالنسبة إلى وجودنا الحاضر.

لا يزال المجتمع العربي في نظرنا أسيرا للوعي العصبي ولمختلف الأشكال الأخرى التي تعتبر امتدادا طبيعيا له كالتعصب الثقافي والديني والإثني والجهوي وغيرها من النماذج الحية يعجّ بها واقعنا اليوم، إن طبيعة السلطة القائمة في الوطن العربي اليوم من حيث تركيبها النفسي والاجتماعي تحمل نفس المضمون التاريخي لطبيعة السلطة التي كانت مجال اهتمام ابن خلدون وتفكيره.

إن المجتمع الذي يقوم على العصبية للوصول إلى السلطة ويفرض نفسه كأمر واقع على الجميع اعتمادا على مبدأ القوة والغلبة لا يمكنه في نظرنا أن يحقّق تواصلا تاريخيا وبالتالي تطوّرا حضاريا. إنّنا لم نستفد من الدرس الخلدوني، فلا زلنا نكرّر نفس الأخطاء التي كبلت المجتمع قديما ولا زالت تكبّله إلى اليوم.

إننا لا نلوم ابن خلدون الذي لم يقدم نظرية سياسية بديلة للعصبية لكي نخرج من هذا المأزق التاريخي وهذا التخلف في فكرنا السياسي، إننا لا نلومه أبدا فابن خلدون لم يكن من الممكن أن يرى أكثر ممّا رأى لأن الواقع التاريخي والاجتماعي الذي عاش فيه لم يكن يسمح بأي حديث موضوعي (المستقبل) غير حديث العصبية (الماضي) ولأن العصبية كقانون كانت المبدأ الموضوعي الوحيد الذي يستجيب لهذه الفترة التاريخية من مراحل تطور المجتمع العربي فلم يكن باستطاعة ابن خلدون إذن أن يقدم لنا نظرة للمستقبل لأنّ سكوته عن المستقبل كما يرى الدكتور محمد عابد الجابري لم يكن مجرّد سكوت بل عدم قدرة على الكلام.

إننا لا نلوم ابن خلدون بالفعل ولكن نلوم أنفسنا لأننا و إن كنا نتفهم ابن خلدون وظروف عصره فإننا لا نتفهم العالم العربي اليوم الذي لا زال منخرطا في نفس العوائق التاريخية التي كبلت العالم العربي قديما وإن كان يدعي عكس ذلك. فالأنظمة العربية القائمة قامت كلها تقريبا على أساس العصبية، إما عصبية عرقية أو جهوية أو ثقافية. لا زلنا نفتقد إلى عقد اجتماعي عربي جديد، هذا العقد يقوم بتحليل مفهوم السلطة وكيفية ممارستها وندخل بذلك في زمن عربي جديد، زمن يجعلنا نستفيد من الزمن الخلدوني لكن دون أن نستمر فيه.

إن دعوة المستقبل لنا ورسالته الحضارية يتطلب منا تحرير واقعنا من السلاسل والقيود الفكرية والاجتماعية التي تكبله حتى لا يبقى مستقبلنا مشروعا بدون تحقيق، إن ذلك لن يتحقّق إلّا إذا قمنا بثورة سقراطية في مجال معرفة الذات«اعرف نفسك من حيث أنّك حصيلة سيرورة تاريخية ظلت سارية حتى اللحظة الراهنة، سيرورة تركت فيك أثارا لا حصر لها دون أن تترك سجلا يحصيها ولذلك كان من الضروري الأكيد البدء بكتابة هذا السجل».

إنّها مهمّة شاقّة دون شكّ ولكنّها ضرورية حتى لا تنطبق علينا فكرة هيجل القائلة: « إنّ كلّ ما نتعلّمه من درس التاريخ هو أنّه لا أحد تعلّم من التاريخ ».

———————————————————————————-

* أستاذ جامعي و باحث أكاديمي  – الجزائر

شاهد أيضاً

من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري

تحاليل _ تحاليل سياسية _ من يتذكّر الغنّوشي؟ | معن البياري* تكتمل الخميس المقبل أربعة …

3 تعليقات

  1. بداهة أن العالم العربي يفتقر إلى النظم السياسية الديمقراطية ،وإشاعة مفهوم المواطنة والمواطن على غرار الدول المتمدنة الحداثية الغربية.والعناية بالمنظومة التربوية التعلمية ،وإيلاء البحث العلمي الجاد عناية واهتمام أكبر. أعتقد هذا هو المخرج مما يعانيه العالم العربي.

  2. هذا الموقع المعاش في ليبيا بالتحديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.